فيلم الكيت كات بين العمل الأدبي والسينمائي

فيلم الكيت كات

بقلم المؤرخ والناقد الفني د. أحمد عبد الصبور

<< فيلم الكيت كات >>

فيلم ” الكيت كات ” هو واحد من الأيقونات السينمائية على مدار تاريخ السينما المصرية ، والذي لا يزال يرسم البهجة على وجوه الجمهور المصري والعربي .

” الكيت كات ” فيلم دراما مصري من إنتاج سنة 1991 م … وقصة الفيلم من وحي رواية ” مالك الحزين ” للروائي والأديب ” إبراهيم أصلان ” ، والفيلم سيناريو وإخراج ” داود عبد السيد ” ، وإنتاج ” حسين القلا ” .

 

والفيلم من بطولة : ” محمود عبد العزيز ” ، و ” أمينة رزق ” ، و ” شريف منير ” ، و ” عايدة رياض ” ، و ” نجاح الموجي ” ، و ” علي حسنين ” ، و ” أحمد كمال ” …

وكتب كلمات الفيلم الشاعر ” سيد حجاب ” ، والموسيقى التصويرية ” راجح داوود ” ، ومدير التصوير ” محسن أحمد ” ، والإشراف الفني والديكور ” أنسي أبو سيف ” .

يحتل الفيلم المركز الرابع والعشرين في قائمة أفضل مئة فيلم مصري حسب إستفتاء النقاد عام 1996م ، كما حصل الفيلم على الجائزة الذهبية لأحسن فيلم من مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1991م .

حظي فيلم ” الكيت كات ” بإهتمام نقدي وجماهيري فاق كل تصور ، حيث إستمر عرضه الجماهيري أكثر من عشرين أسبوعاً … هذا بالإضافة إلى الإحتفاء والقدير النقدي في الصحافة والمهرجانات .

إشترك الفيلم في عدة مهرجانات محلية ودولية ، ففي مهرجان الإسكندرية حصل على جوائز أفضل ممثل وسيناريو وتصوير وديكور … وفي مهرجان دمشق الدولي حصل على جائزة السيف الذهبي مناصفة مع فيلم كوبي وجائزة أفضل ممثل … أما مهرجان جمعية الفيلم فقد أهداه ثماني جوائز وهي : أفضل فيلم ، أفضل إخراج ، أفضل سيناريو ، أفضل ممثل ، أفضل مونتاج ، أفضل موسيقى ، أفضل ديكور ، أفضل ملصق إعلاني .

 

ملخص قصة الفيلم :

بحواري ” الكيت كات ” ، يعيش الشيخ ” حسني ” ( محمود عبد العزيز ) مع أمه ( أمينة رزق ) وإبنه ” يوسف ” ( شريف منير ) ورغم فقده لبصره ولعمله ولزوجته ، إلا أنه لم يفقد الأمل ولم يسلم بأنه أعمى ، فهو يستغل دكاناً بالمنزل الذي تركه له والده ليدخن فيه الحشيش مع أصحابه ويغني لهم على العود بعد أن فشل بدراسته الأزهرية وفشل أن يصبح منشداً ، وباع البيت لتاجر المخدرات ” الهرم ” ( نجاح الموجي ) مقابل راتب يومي من الحشيش ، والذي يخبأه بمنزل الأسطى ” حسن ” ( محمد جبريل ) ويرافق زوجته ” فتحية ” ( جليلة محمود ) ، وباع ” الهرم ” البيت للمعلم ” صبحي ” الفرارجي ( نادر عبد الغني ) والذي أراد هدمه لبناء عمارة كبيرة ، وساوم المعلم ” عطية ” ( عثمان عبد المنعم ) صاحب القهوة لتركها مقابل خلو ، فلما رفض سلط عليه صبيانه ، فطعنوه حتى رضخ ، وإكتشف الشيخ ” حسني ” أن البنت ” روايح ” ( جيهان نصر ) تخون زوجها الصائغ ” سليمان ” ( أحمد كمال ) بسبب إهماله لها ، وبعد أن لجأ إليه للبحث عن روايح عند أمها ” عواطف ” ( أمل إبراهيم ) ، ذهب معه الشيخ ” حسني ” ليكتشف هروب ” روايح ” مع عشيقها ، وإستعاد الشيخ ” حسني ” ذكريات الصبا مع ” عواطف ” عندما كانا يلعبان معاً عروسة وعريس ، وإتفقا على اللقاء بالغد عندما تخرج بناتها .

إكتشف الشيخ ” حسني ” أن إبنه ” يوسف ” المحبط بعد تخرجه من الجامعة وعدم حصوله على عمل ، ويريد السفر للخارج ، إنه على علاقة بالمطلقة ” فاطمة ” ( عايدة رياض ) والتي تركها زوجها العربي بعد أن قضى مأربه منها وسافر وأرسل لها ورقة الطلاق ، ومما أزعجه أن ” يوسف ” فشل جنسياً مع ” فاطمة ” ، وبحث عن ” الهرم ” بالمكان الذي يسهر فيه وهو منزل الأسطى ” حسن ” ، فلم يجده ، فطلب منه أن يقضي حاجته بحمامه ، والذي إكتشف أن الهرم كان مختبئاً به ، فظنه لصاً ، وكانت فضيحة ، ولكن ” فتحية ” لبست ثوب البراءة ورفضت إتهام زوجها لها بالخيانة ، وطردته من المنزل ، وفشل ضابط المباحث في القبض على الهرم متلبساً ، لأنه يخفي البضاعة بمنزل ” فتحية ” ، فلفق له تهمة حشيش ووضعه بالحجز ، وتمكن الضابط من ضبط شلة الشيخ ” حسني ” وهي تحشش ، ولكن الشيخ ” حسني ” تمكن من الهرب ، وظن أن ” الهرم ” هو الذي وشى به ، فدخل له الحجز بزيارة ليتأكد منه ، وهي الزيارة التي مكنت ” الهرم ” من إستبدال ملابسه بالحجز ، فأفرج عنه وكيل النيابة ، وإصطدم الشيخ ” حسني ” بالشيخ ” عبيد ” ( علي حسنين ) الكفيف ، وصحبه للسينما لمشاهدة فيلم أجنبي ، وركب معه فلوكة بالنيل ، وحاول صبيان الفرارجي إغراقهما ليترك الشيخ ” حسني ” الدكان ، ومات عم ” مجاهد ” ( أحمد سامي عبد الله ) بياع الفول ، وأقام له الشيخ ” حسني ” ليلة عزاء ، نام فيها صبي الكهربائي ( علي إدريس ) ونسى الميكروفون مفتوحاً أثناء حديث الشيخ ” حسني ” عن كل أسرار الحي ففضح الفرارجي والقهوجي والصايغ وأم ” روايح ” و ” فاطمة ” و ” يوسف ” ، الذي نجح أخيراً بعلاقته مع ” فاطمة ” ، كما أفشى بمكان المخدرات عند ” فتحية ” ، ليخرج من عندها ” الهرم ” مسرعاً والحشيش يتساقط منه ، وصحب ” يوسف ” أبيه ليركبا موتوسيكلاً يقوده الشيخ ” حسني ” ، ويسقطون به في النيل ، ولكنهم يخرجون سالمين .

 

طاقم التمثيل :

” محمود عبد العزيز ” بدور الشيخ ” حسني ” .

” أمينة رزق ” بدور ” أم حسني ” .

” شريف منير ” بدور ” يوسف ” إبن الشيخ ” حسني ” .

” عايدة رياض ” بدور ” فاطمة ” .

” نجاح الموجي ” بدور ” الهرم ” .

” علي حسنين ” بدور الشيخ ” عبيد ” .

” أحمد كمال ” بدور ” سليمان ” .

” عثمان عبد المنعم ” بدور المعلم ” عطية ” .

” أحمد سامي عبد الله ” بدور ” مجاهد ” .

” جليلة محمود ” بدور ” فتحية ” زوجة الأسطى ” حسن ” .

” أمل إبراهيم ” بدور ” عواطف ” أم ” روايح ” .

” صلاح صادق ” بدور المعلم ” رمضان ” .

” محمد الكيلاني ” بدور ” عبد الله ” صبي القهوة .

” نادية شمس الدين ” بدور أم ” فاطمة ” .

” أيمن عبد الرحمن ” بدور ” سالم ” .

” جيهان نصر ” بدور ” روايح ” .

” محمد جبريل ” بدور الأسطى ” حسن ” .

” حلمي عبد الوهاب ” بدور الخواجة .

” عباس منصور ” بدور ضابط المباحث .

” ماجد حبشي ” بدور صبي الفرارجي .

” نادر عبد الغني ” بدور المعلم ” صبحي ” الفرارجي .

” سامح السيد ” بدور وكيل النيابة .

” علي إدريس ” بدور كهربائي الميكروفون في العزاء .

الشيخ ” عيد ” بدور الشيخ ” حمادة الأبيض ” .

” أحمد برقوقة ” بدور شاب الحجز .

محمد الجندي .

سمير فتحي .

 

كيف رأت فاتن حمامة فيلم ” الكيت كات ” ؟

 

لقد حقق فيلم ” الكيت كات ” نجاحاً كبيراً على مستوى النقاد والجمهور وحاز العديد من الجوائز في مختلف المهرجانات التي شارك بها سواء على مستوى التمثيل أو الإخراج أو السيناريو .

وجاء فيلم ” الكيت كات ” في المرتبة الـ24 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية بحسب إستفتاء النقاد ، وبالرغم من الإشادات الكثيرة التي حظى بها الفيلم إلا أن شهادة سيدة الشاشة العربية ” فاتن حمامة ” لها مدلول مختلف سواء لصناع الفيلم أو لشهادة التاريخ بشكل عام ، فمن خلال حوار قديم لجريدة ” الحياة ” تم نشره في عام 1993 م … قال الصحفي ” وليد السيد ” إنه حينما سأل ” فاتن حمامة ” عام 1991 عن رأيها بالجيل الجديد من مخرجي السينما أكدت أنها ترى ” داوود عبد السيد ” هو أخطر مخرج بين أبناء جيله أي أنها ترى أعماله ذات أهمية كبيرة .

وعن فيلم ” الكيت كات ” أكدت سيدة الشاشة العربية أنها قرأت سيناريو الفيلم الذي كتبه المخرج ” داوود عبد السيد ” ، وأوضحت أنها رأت أن الفيلم يحمل داخله مشهداً يعد غاية في الروعة وبأنها حينما قرأته ظلت تبكي ، وهو المشهد الذي جمع الفنان ” محمود عبد العزيز ” والفنان ” علي حسنين ” وقالت ” فاتن حمامة ” في هذا المشهد : ” رجل أعمى يقابل رجلاً أعمى آخر ويقول له ( والنبي يا أبني أعبر بي الشارع ) فيمسك الرجل بيديه ويعبر به حتى ينشأ بينهما حديث من أجمل ما يكون ” .

 

وأكدت ” فاتن حمامة ” أن هذا المشهد قد وجدته في فيلم أمريكي بعد أن كانت قد قرأت سيناريو فيلم ” الكيت كات ” بعشر سنوات وكان في فيلم ” لا تسمع شراً ولا تر شراً ” ولكنه كان عن شخص أعمى وآخر أصم يحدث بينهما مثل الموقف الذي حدث بفيلم ” الكيت كات ” .

 

 

 

” داود عبد السيد ” يكشف سبب إختيار ” محمود عبد العزيز ” لتقديم « الشيخ حسني » :-

 

الفنان الكبير ” محمود عبد العزيز ” ، الذي غادر عالمنا منذ عام 2016 عن عمر يناهز الـ70 عاماً ، ولكنه لم يغب لحظة عن قلوب محبيه ليظل حياً ينبض بتاريخ طويل من الإبداع ما بين مجموعة كبيرة من الأدوار التي جسدها ببراعة شديدة .

 

« الشيخ حسني » واحدة من أهم الشخصيات التي قدمها الفنان الراحل في فيلم « الكيت كات » للمخرج المبدع ” داود عبد السيد ” ، في توليفة إنسانية إستثنائية مأخوذة عن رواية « مالك الحزين » للكاتب الراحل ” إبراهيم أصلان ” ، والذي جاء ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية .

 

وروى المخرج ” داود عبد السيد ” سبب إختيار ” محمود عبد العزيز ” لأدء دور الشيخ الكفيف ، بالرغم أنه نجم كان يتم تصنيفه كـ « جان » في ذلك الوقت ، قائلاً : « عندما تعاونت معه في المرة الأولى في فيلم ( الصعاليك ) لمحت فيه موهبة ممثل كبير ، ومعرفتي بإمكانياته التمثيلية خاصة تلك المنطقة الكوميدية الظريفة لديه في الأداء ، بالإضافة إلى معرفتي بشخصيته الحقيقية ، فكان بالنسبة لي الجزء الصحيح الذي ملأ الفراغ » .

وتابع ” داود عبد السيد ” قائلاً : « أتذكر أني أحضرت له شيخاً كفيفاً ليكون قريباً من الشخصية ، عندما شاهدته في عزاء ذهبت إليه ، وهو الشيخ نفسه الذي كان يقرأ القرآن في العزاء بآخر الفيلم في جنازة ( عم مجاهد ) ، وأعتقد أنه قام ببحث أكبر من ذلك ، فـ ” محمود عبد العزيز ” كان نجماً كبيراً ويعرف كيف يكون الشخصية ، وهو ما ظهر في الشكل النهائي لها في الفيلم » .

 

وذكر المخرج الكبير ” داود عبد السيد ” أن عند تقديم سيناريو فيلم « الكيت كات » لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية ، كتبت عليه تعليق « الفيلم كئيب » ، حيث كان يحمل في البداية إسم « عرايا في الزحام » قبل الإستقرار على الإسم النهائي ، وإستمر ” داود عبد السيد ” في البحث عن إنتاج للفيلم على مدار 5 سنوات .

 

إن فيلم ” الكيت كات ” يعد واحد من أهم الأيقونات السينمائية على مدار تاريخ السينما المصرية ، والذى لايزال يرسم البهجة على وجوه الجمهور المصري والعربي ، وهو يعد من الروائع فهو رائعة النجم الراحل ” محمود عبد العزيز ” ، الذي جسد فيه واحد من أشهر شخصياته ، شخصية الشيخ ” حسني ” ، ليترك بها بصمة فى قلوب كل عشاق الفن ، ويظهر مدي موهبته وإبداعه وإتقانه لأداء شخصياته وإخلاصه لفنه .

لذلك حصد الفيلم على عدداً من الجوائز منها : جائزة أفضل فيلم في مهرجان الإسكندرية ، وحصل على الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان القاهرة ، والجائزة الأولى من مهرجان دمشق السينمائي .

 

فيلم الكيت كات حكاية بسيطة شعبية صاغها بعبقرية ” داوود عبد السيد ” إستناداً على رواية المبدع ” إبراهيم أصلان ” ، ورغم بساطتها لكنها ككل أفلام ” داوود عبد السيد ” تحمل نكهة فلسفية عميقة ، فهو يتحدث عن العجز ، الحلم ، الحياة والموت ، إرادة التغيير ، إرادة الحياة ، من خلال صورة سهلة يفهمها الجمهور .

 

 يحمل الفيلم  مجموعة من الرسائل المهمة ، ولكنها بسيطة في نفس الوقت ، قد يراها البعض سياسية ، وكثيرون رأوها إجتماعية بحتة ، تعبر عن حال المجتمع المصري ، آنذاك ، ولكن مما لا شك فيه ، هو رصد ” داوود عبد السيد ” لحالة العبث الموجودة في مجتمعنا ، التي قد تصل بنا إلى اللا معقول ، تتجسد بوضوح في مشاهد للشيخ ” حسني ” ، ولكن أبرزها طريقة قيادة الشيخ ” حسني ” لـ ” الفسبة ” الجديدة ، في المنطقة .

 

 

وحظي فيلم ” الكيت كات ” بإهتمام نقدي وجماهيري فاق كل تصور ، حيث إستمر عرضه الجماهيري أكثر من عشرين أسبوعاً ، هذا بالإضافة إلى الإحتفاء والقدير النقدي في الصحافة والمهرجانات ، إذ يقدم الفيلم رسالة حقيقة ويشير إلى أن العمى ليس عمى البصر ولكن عمى البصيرة ، كما يحتل الفيلم المركز رقم 24 في قائمة أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية حسب إستفتاء النقاد بمناسبة مرور 100 عام على أول عرض سينمائي بالأسكندرية منذ 1896 م وحتي 1996م ، وكان الإختيار بداية من عام 1927 حيث تم عرض أول فيلم مصري ( ليلي  1927) وحتى عام 1996م ، وحصل فيلم ” الكيت كات ” على الجائزة الذهبية لأحسن فيلم من مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1991 م .

 

 

حكاية الرواية التي جعلت الفنان المبدع ” محمود عبد العزيز ” … ” أسطورة ” .

رواية ” مالك الحزين ” تعتبر من أشهر وأهم الروايات العربية المعاصرة ، ألفها الكاتب الكبير ” إبراهيم أصلان ” ، وقد إستغرقت منه وقتاً للكتابة من ديسمبر عام 1972 م وحتى أبريل عام 1981 م ، أي في حوالي ثمانية أعوام ونصف تقريباً .

وتدور أحداث الرواية في حي إمبابة في القاهرة تحديداً في منطقة الكيت كات ، وشخصيات الرواية أكثر من 115 شخصية ، رغم الحجم المتوسط نسبياً للرواية ، ويمكن أن نصنف الأشخاص الأساسيين في الرواية إلى :

 

” يوسف النجار ” نموذج للشباب المغترب ، و ” فاطمة ” فتاة بسيطة فقيرة تحب ” يوسف النجار ” من طرف واحد وتحاول أن تغويه ، ” الشيخ حسني ” شيخ ضرير يعيش في المنطقة ويعاني من إغتراب ووحدة ويحاول أن يتكيف معها بطرق طريفة ومضحكة ، ” المعلم صبحي ” التاجر الغني الذي يحاول أن يشتري القهوة الرئيسية في المنطقة والتي تمثل معلماً بارزاً في حياة الأبطال ليقوم بهدمها وبناء عمارة محلها ، المعلم ” عطية ” صاحب المقهى ، ” الهرم ” بائع المخدرات في المنطقة .

في سنة 1991 تم تحويل الرواية إلى عمل سينمائي تحت مسمى ” الكيت كات ” على يد المخرج ” داوود عبد السيد ” ، وقد تم دمج بعض الشخصيات وتغيير دور شخصيات أخرى وإخفاء شخصيات أخرى ، ولكن ظلت الرواية هي الخط الأساسي للفيلم .

ومن بعد هذا الفيلم تحولت ” الكيت كات ” إلى قلب العالم  وأصبح ” الشيخ حسني ” نسبة للشخصية التي قام بها الفنان الكبير ” محمود عبد العزيز ” ، الشخصية الوحيدة التي نافست ” سي السيد ” بطل ثلاثية الروائي والأديب الكبير ” نجيب محفوظ ” على شاشة السينما ، وذلك رغم ما فيها من تيه لكنها في الوقت نفسه ممتلئة بحب الحياة ، ورغم أن الهزائم تنهي أحلامها لكنها شخصية لا تيأس فهي دائماً ترى الأمل واضحاً في نهاية الطريق .

 

وشخصية ” الشيخ حسني ” عبرت عن الحالة النفسية للشعب المصري في فترة ما ، فقد رأى المصريون أنفسهم فيه ، فهو يخدع نفسه أحياناً حتى يستطيع تحمل الحياة ، يريد أن يقنع العالم أنه باع البيت من أجل مستقبل إبنه وهو في الحقيقة باعه من أجل اللا شيء ، ومن من لا يفعل ذلك … من من يعترف بأنه ضاع في اللا شيء … ؟؟؟!!!

تحولت هذه الشخصية لرمز … فهو الذي لا تسعفه بصيرته لكنه يرصد يوميات أبناء الجيل ويقود الدراجة في شوارع القاهرة كأي شخص مبصر ، تلك الشخصية كأنها مجاز لمنظور ” إبراهيم أصلان ” للتصوير الروائي ، ورغبته بتحدي المستحيل ، أن يجعل القارئ يبصر لا من خلال عينيه بل من خلال ” بصيرته ” ، التي هي في لغة النقد الأدبي ” القدرة التخيلية ” .

وفي كتابه ” شيء من هذا القبيل ” وتحت عنوان ” وصل ما إنقطع ” يتتبّع ” إبراهيم أصلان ” مصائر الشخصيات الحقيقية لروايته ” مالك الحزين ” ، وعن ” الشيخ حسني ” يقول : ” كان الطالب الأول في معهد الموسيقى العربية ، كان يعشق ” محمد عبد الوهاب ” ويحفظ المواعيد التي تبثّ خلالها الإذاعات أغنياته ، وكان يعمل مدرّساً للموسيقى ، لكنّ إدمانه ” للمسائل ” وعدم إهتمامه بمظهره جعل إدارة المدرسة تتخلّى عن خدماته وتطلب منه أن يرسل شخصاً في أول كل شهر لقبض مرتّبه .

ويضيف ” إبراهيم أصلان ” علمت أن الأحوال تدهورت به وأنه إتخذ من بولاق أبو العلا منطقة للوقوف ، لأنها بعيدة عمن يعرفونه و قريبة من تجار الكيف الذين كان يقصدهم كلما تيسر ، أخبرني الشرباتي أنه بعدما مرض مرضاً شديداً جاء إبنه الذي صار رجلاً اﻵن وأخذه عنده في المنيرة ، و في اليوم الذي حملوه في طريقهم إلى المستشفى تمنى على إبنه أن يجعل التاكسي يخترق شارع السوق الطويل الذى قضى به عمره كله ، و هو نام على كنبة التاكسي الخلفية وطلب أن ينبهوه عندما يصلون أول الشارع ، وعندما فعلوا تحامل على نفسه وأخرج نصفه العلوي من نافذة العربة لعل أحداً من أصدقائه القدامى يلمحه ، وعندما وصل التاكسي أمام ” عادل الشرباتي ” أول المساء صاح عليه : إيه يا مولانا … وأطبق الشيخ على يديه صارخاً : إنت مين ؟ … ” الشرباتي ” ذهل و لم يستبشر خيراً لأن الشيخ لم يتعرف عليه من صوته ولا قبضة يده و قال : الله أنا عادل … و قال هو : يا عادل أنا عيان و رايح المستشفى … إبقى قول للناس بقى … وإستلقى بجسده الضئيل على الأريكة الخلفية … و الشيخ حسني مات ، وبقيت الصور .

 

 

أفلام ” داوود عبد السيد ” … حين تكتمل اللوحة الفنية بريشة الموسيقار ” راجح داوود ” …

 

الموسيقار ” راجح داوود ” … الفائز بجائزة الدولة التقديرية في مجال الفنون ، ذلك الموسيقار الذي إلتقى بمقاهي وسط البلد وتحديداً ” الجريون ” – المقهى المفضل لدى الفنانين والمبدعين – بالمخرج الكبير ” داوود عبد السيد ” …

وعلى إبداعات ” داوود عبد السيد ” وضع ” راجح داوود ” موسيقاه لتكتمل اللوحة الفنية الإبداعية التي شكلها الثنائي في عدة أعمال : ” الصعاليك ” ، ” البحث عن سيد مرزوق ” ، ” الكيت كات ” ، ” سارق الفرح ” ، ” أرض الأحلام ” ، ” أرض الخوف ” ، ” مواطن ومخبر وحرامي ” ، ” رسائل البحر ”  ليصبح ” راجح داوود ” بعدها علامة في السينما المصرية .

 

تمكن ” راجح داوود ” بموسيقاه أن يترجم مشاعر وأحاسيس مختلفة بوضع تيمة موسيقية تناسب الأحداث كافة ، بالإضافة إلى التعبير عن التحول في الشخصيات التي تفرضها الدراما على الأحداث ، وأخيراً تنبيه المشاهد بأن شيئاً عظيماً يحدث في كل مشهد ، فهو موسيقار من نوع فريد ينتمي إلى جيل من الموسيقيين أقل حظاً من الجيل الحالي ، بفضل الثورة التكنولوجية في عالم صناعة الموسيقى الموجودة الآن ، فجيله كان يعاني من ندرة الإستوديهات .

 

وليس غريباً أن يهدي الموسيقار ” راجح داوود ” رفيق مشواره ” داوود عبد السيد ” مؤلفاته في حفل قدمته أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة المايسترو ” ناير ناجي ” عام 2019 م ، وأقيم على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية .

 

وعن تعاونه مع الموسيقار ” راجح داوود ” في فيلم ” الكيت كات ” ، قال المخرج الكبير ” داوود عبد السيد ” في إحدى ندوات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2018 م : ” في الحقيقة كنت خائفاً من العمل مع الموسيقار ” راجح داوود ” المصمم الموسيقي للفيلم ، وأنه من قرر أن يكون خلفية الفيلم الذى يتحدث عن كفيف البصر يرى بالبصيرة أن يكون العود هو البطل في الموسيقى التصويرية ” ، لكن رؤية ” راجح داوود ” حالفها الصواب لتمتزج الصورة مع الموسيقى ليخرج العمل بشكل بديع .

 

ويقول ” راجح داوود ” عن تجربته مع ” داوود عبد السيد ” : ” داوود عبد السيد ” مخرج مميز جداً له طعم خاص وسط مخرجي السينما في مصر ، يحب عمله ولا يحب الصدفة فهو يحسب كل صغيرة وكبيرة ، وقد إستعان بي في فيلمه الأول ليجربني وأعتقد أنني أضفت إليه شيئاً ما فإستعان بي في فيلمه الثاني وشكلنا ثنائياً فنياً جميلاً ، فقد قدمت الموسيقى لكل أعماله وزادت خبرة تعاملنا معاً وأصبحنا كياناً فنياً جميلاً وكانت لافتة جميلة منه حينما أهداني فيلمه « أرض الخوف » .

 

فيلم ” الكيت كات ” أكثر الأفلام المصرية إكتمالاً :-

————————————————–

ربما كل من أسعده الحظ وشاهد تلك التحفة السينمائية قد شعر بهذا … ذلك الإنغماس الكلي في ذلك العالم الخاص جداً والإفتتان بشخوصه ومفرداته … تلك النكهة المصرية التي لا يمكن أن تخطئها عين أو أذن … ذلك الإفتتان الباقي أبداً بشخصية الشيخ ( حسني ) والتي تبقى في ذهنك كثيراً جداً بعد إنتهاء الفيلم … تلك المتعة البصرية والذهنية والعقلية الخالصة التي تستحوذ عليك تماماً طوال مشاهدة الفيلم وربما تدفعك لتعيد النظر في أمور كثيرة ظننت إنها من ثوابت الحياة …

 

ولكن السؤال : ما الذي جعل ( الكيت كات ) يحمل كل هذه الخصوصية والجمال ؟ سأحاول الإجابة في السطور التالية :

 

1- الحكاية البسيطة الشعبية التي صاغها بعبقرية ( داوود عبد السيد ) إستناداً على رواية للمبدع المهضوم حقه ( إبراهيم أصلان )… حكاية بسيطة ولكنها ككل أفلام ( داوود عبد السيد ) تحمل نكهة فلسفية عميقة … فهو يتحدث عن العجز .. الحلم .. الحياة والموت .. إرادة التغيير .. إرادة الحياة .. يتحدث أساساً ( في وجهة نظري ) عن المسافة الشاسعة بين طموح الإنسان اللا محدود وقدراته الأرضية المحدودة … كل هذا في إطار حكاية بسيطة يمكن لأي أحد أن يفهمها …

 

2- شخصية الشيخ ( حسني ) … ذلك الرجل الحالم الذي فقد نعمة البصر منذ طفولته … والذي يحمل في داخله خليط عجيب من الفيلسوف والفنان المتشبث بالحياة … مازال غير قادر على الإعتراف بما فقده … يخفي في داخله أطنان من الحزن ولكنه يأبى الإعتراف بهذا … يحاول الهروب من واقعه المظلم بالعزف على العود الذى ورثه عن أبيه … يريد أن يتحرر من جسده العاجز وينطلق بعيداً … ( نفسي أطير .. أطير ) … ذلك المزيج الساحر والذي أداه بعبقرية لن تتكرر ( محمود عبد العزيز ) في أروع أدواره على الإطلاق والذي ربما يكون هو أحد الأسباب الرئيسية في جعل هذا الفيلم لا يقاوم …

 

3- بالطبع لا نغفل قدرات ( داوود عبد السيد ) الإخراجية … إختياره للكادرات وحركة الكاميرا المتمهلة تارة ( لتسمح لنا بالتأمل ) مثل مشهد موت عم ( مجاهد ) , والسريعة تارة لتسمح لنا بالشعور بالإنتصار , مثل المشهد الأشهر للشيخ ( حسني ) على الموتوسيكل … نجح ( داوود عبد السيد ) في إظهار الجوانب المتناقضة للشيخ ( حسني ) المتواثبة بين أقصى الحزن وأقصى العبث دون فذلكة إخراجية زائدة أو إستعراض عضلات … إختياره أيضاً للممثلين كان موفقاً … أعجبني جداً ( نجاح الموجي ) في دور ( هرم ) , وبالطبع ( شريف منير ) في دور ( يوسف ) إبن الشيخ ( حسني ) …

 

4- لا نغفل قطعة الموسيقى التصويرية العبقرية لـ ( راجح داوود ) والتي بدونها أعتقد كان الفيلم سيخسر الكثير … تحمل الموسيقى في طياتها روح الفيلم نفسه … فهي موسيقى مصرية خالصة … حزينة بعض الشىء … ولكنها ليست كئيبة … كأنها تقول : نعم الواقع مظلم ولكن الأمل موجود دائماً … في مشهد الموتوسيكل بدأت الموسيقى مرحة نوعاً لترافق المشهد الكوميدي للشيخ الضرير وهو يقود الموتوسيكل بسرعة وسط الحارة المزدحمة … ثم لم تلبث الموسيقى أن سلكت مسلكاً مختلفاً أقرب للتأمل وكأن ليس المطلوب فقط أن نضحك مع الشيخ ( حسني ) , ولكن أن نشعر شعوره … فهو قد حقق حلمه بالطيران على الرغم من كل شيء …

 

بإختصار لم يتوفر لفيلم مصري ( قديماً أو حديثاً ) كل هذه العوامل الناجحة والتي تجعله أقرب للإكتمال … حتى أفلام ( داوود عبد السيد ) اللاحقة لم تقترب من المستوى الشامخ لهذا الفيلم …

 

هذا الفيلم لم يصنع لتشاهده مرة واحدة … بالعكس … كلما تقدم بك العمر سترى فيه أفاقاً جديدة لم ترها من قبل …

 

درجن … درجن … درجن … درجن …

يا شيخ حسني يا جن

 

 

 

وفي رؤية نقدية لفيلم ” الكيت كات ” نرى :-

———————————————-

إن فيلم ( الكيت كات ) يعد نموذجاً جيداً بل ومتميزاً في مجال كانت السينما المصرية تعاني منه ، ألا وهو ترجمة العمل الأدبي إلى رؤية سينمائية … فقد كان تطويع البعد الروائي الأدبي لصالح المشهد السينمائي مرتبكاً دائماً … فالكاميرا في سعيها لتحقيق وتجسيد الرواية الأدبية سينمائياً وترجمتها حرفياً ، تجعل السينمائي ينسى شروط أدواته التعبيرية وإمكانياتها الموضوعية ، وبالتالي يحاول ليّ عنق الكاميرا لصالح المشهد الأدبي ، وذلك على حساب المشهد السينمائي … وقد ينجح السينمائي أحياناً في نقل وترجمة الرواية ، إلا أنه يخفق كثيراً بسبب الشرط الموضوعي لحجم إتساع المشهد الذي تمتلكه السينما … وبالتالي فقدان اللغة السينمائية أو إرتباكها ، مما يجعل الفيلم يتخبط كثيراً في لهاثه وراء العمل الأدبي .

أما فيلم ( الكيت كات ) ، فقد كتبه ” داود عبد السيد ” ـ إضافة الى الإخراج ـ من وحي رواية « مالك الحزين » للروائي ” إبراهيم أصلان ”  … وإستطاع أن يصنع فيلماً متميزاً عن عمل أدبي متميز ، دون تفريغه من محتواه …

كما نجح ” داود عبد السيد ” في أن يتمثل الرواية ويعيد صياغتها ، بعد أن أعطى لنفسه الحق ـ كفنان صاحب رؤية ـ في التعديل والحذف والإضافة والتغيير والدمج ، وإقامة بناء متواز تخلص فيه مما تصور أنه يشكل عبئاً على بناء الفيلم … حيث أن الرواية تحتوي على أكثر من أربعين شخصية ، ومجمل أحداثها تدور في أقل من أربعاً وعشرين ساعة … وليس من السهل ـ طبعاً ـ نقل كل هذا في فيلم واحد … لذلك إنتقى ” داود عبد السيد ” بعضاً من الشخصيات وقدم من خلالها موضوعاً مختلفاً عن موضوع الرواية الرئيسي … فقد جعل من ” الشيخ حسني ” وإبنه ” يوسف ” شخصيتان محوريتان تدور في فلكها بقية الشخصيات ، وصاغ من تلك العلاقة التي تجمعهما رؤية لعالم « الكيت كات » … بينما لا توجد شخصيات رئيسية أو حدث رئيسي في الرواية ، إنما هي مجموعة من الأحداث والتفاصيل التي تنتظم في منظومة أو نسق واحد يحتل رؤية الروائي نفسها ، ومن بين صفحات الرواية تخرج شخصيات الفيلم وأحداثه ، وهي بالتالي تنتمي إلى الرواية بقدر إبتعادها عنها … فالفيلم والرواية يتعرضان لعالم « الكيت كات » ولشخوصه وشكل الحياة اليومية الممتدة منذ عمق التاريخ للمكان الذي يتعرض للبيع والتفكك في نسق القيم الإجتماعية المتجسدة في الممارسات والسلوك اليومي ، من قبل فرسان الإنفتاح الجدد ، والخارجين عن هذا النسق .

وبعداً عن تلك الأنماط المكررة في الأفلام المصرية ، ينتقي ” داود عبد السيد ” شخصية ” الشيخ حسني ” الحيوية ، والتي ملأت رواية « مالك الحزين » مرحاً وصخباً وحياة ، ليعيد صياغتها وترتيب علاقاتها وتوسيع مساحتها ، لتصبح بذلك هي الشخصية المحورية في الفيلم … فالشيخ حسني ( محمود عبد العزيز ) مدرس موسيقى سابق ، فاقد للبصر لكنه يمتلك بصيرة شيطانية وإصراراً عنيداً على تحدي هذه العاهة ورفض عجزه هذا … متيقناً بأنه يرى أفضل من المبصرين … إنه يسير بدون عصا ويستخدم كل حواسه ـ حتى أطراف أصابعه ـ ليتحسس الطريق ويتششم البشر … وتسيطر عليه رغبة محمومة في ركوب دراجة بخارية ، ولا يتردد في تحقيق هذه الرغبة .

نتعرف على الشيخ حسني منذ أول مشهد ، وهو في إحدى جلسات الإنبساط … نسمعه ثم نراه يغني بصوت جهوري وسط صحبة الليل والحشيش ، محتضناً عوده ، ويحاول بصوته المدوي أن يعبر عن وحدته الداخلية ، حيث يجد من يسمعه وسط تلك الصحبة … إنه يتحلى ـ أيضاً ـ بخيال جامح وخصب ، وذكاء فطري حاد ، حيث نراه ـ فيما بعد ـ يوهم ” الشيخ عبيد ” الأعمى بأنه مبصر ويصر أن يقوده في الشوارع ، بل ويحذره من الحُفَر أيضاً ، لدرجة أنه يذهب به إلى السينما ويبدأ في سرد حكاية فيلم من خياله ، ثم يقنعه بأنهما في عرض النيل في زورق ، بينما الحقيقة بأنهما لم يغادرا الشاطىء … كما أنه يغريه بالنساء ويثير غريزته عندما يصفهن له بكلمات الغزل .

وعشرات التفاصيل صاغها ” داود عبد السيد ” بذكاء شديد ووعي بطبيعة الشخصية ، وجسدها بإقتدار الفنان ” محمود عبد العزيز ” … حيث يصل هذا الفنان بالشخصية وتصل به إلى أعلى وأفضل مستويات الأداء التمثيلي ، فهو عندما يرتدي الجلباب ويلغي التعبير بعينيه يصبح لزاماً عليه البحث عن وسائل أخرى للتعبير ، فنراه يطوِّع حركة يديه ورجليه وطريقة سيره ، كما يعتمد على تلوين صوته للتعبير عن إنفعالاته الداخلية … إنه يتحرك في ثقة وحذر شديدين ، يصيخ السمع وتتحول شعيرات جسده بالكامل قرون إستشعار … إنها حقاً شخصية متميزة ، جسدها هذا الفنان المبدع بتميز ، وتمثل دور عمره على أقل تعبير .

ثم أن نجاح هذه الشخصية بهذا الشكل المذهل ليس سببه ذلك الأداء المتميز فحسب ، وإنما هناك عناصر فنية أخرى ساهمت في ذلك النجاح … حيث أنه من الواضح بأن ” داود عبد السيد ” ومدير تصويره الموهوب قد إختارا أفضل الزوايا الملائمة للتصوير والمدروسة بعناية فائقة ، وذلك لكي تتناسب والمواقف التي يؤديها الممثل … ففي المنلوجات الداخلية مثلاً تصور الكاميرا وجه ” محمود عبد العزيز ” منفرداً في لقطات قريبة ، حتى يبدو على خلفية السماء البالغة الإتساع ، كما لو أنه في جزيرة معزولة عن الجميع … كما أن الكاميرا تصوره في العديد من المشاهد من أسفل فيظهر أطول قامة من البيوت … هذا إضافة إلى التركيز بلقطات قريبة وكبيرة على أصابع يديه المرهفة وقدميه وهو يتحسس جدران البيوت خارج شقته ، أما عندما يكون في داخل الشقة فنراه يتحرك بحرية وسهولة مطلقة ، ذلك لأنه يعرف الشقة ويألفها تماماً .

وعلى العكس من شخصية ” الشيخ حسني ” ، تأتي شخصية إبنه ” يوسف ” ( شريف منير ) المصاب بالإحباط والإحساس بالعجز … فيوسف شاب عاطل يبحث عن عمل وأمله كبير في الخروج من أزمته هذه ، والتي تكاد تخنقه ، بالسفر للخارج هرباً من واقع محبط … ثم علاقته المجهضة مع ” فاطمة ” ( عايدة رياض ) وعجزه عن التواصل معها جسدياً … نراه في البداية يفشل في علاقته هذه لأنه مشدود إلى عالم بعيد غير محدد الرؤى ، ولا تتحقق علاقته بها إلا عندما يدرك بأنه جزء من هذا الواقع ويبدأ في صياغة علاقته بهذا الواقع … ثم أن إستيعابه لشخصية أبيه بكل تناقضاتها وهو يراه مصراً على تجاوز عجزه مدفوعاً بحبه للحياة ، جعل ” يوسف ” يستوعب الدرس من أبيه … وقد برز ذلك من خلال المشهدين الأخيرين من الفيلم ، حينما يغني معه ثم يصحبه في نزهة على الدراجة ليشاركه ويساعده على تحقيق رغبته الأبدية ، في شكل من التوحد بين الأب وإبنه ولحظة إنطلاق جديدة لهما .

بالإضافة إلى تلك الشخصيتين المحوريتين ، هناك شخصيات أخرى ثانوية في هذا الفيلم ، تعاني بدورها من الضياع والعجز ، وخصوصاً النساء اللاتي نراهن ضائعات خائنات ، وإن كان ” داود عبد السيد ” يلتمس لهن الأعذار والدوافع ولا يحكم عليهن أحكاماً أخلاقية … فـ ” فاطمة ” التي تحب ” يوسف ” بجنون ، كانت متزوجة من أحد الأثرياء العرب إلا أنه سافر إلى بلده وإنقطعت أخباره بمجرد سفره ، فأصبحت من بعده مهجورة وهي لا تزال في ريعان شبابها ، تتمنى ولو لحظة ود من ” يوسف ” … كذلك ” روايح ” وزوجها ” سليمان ” الصائغ ، تفتح بابها للرجال ، وتصل ذروة الخيانة والمأساة بهروبها ، ليتضح ذلك الواقع النفسي المشوه الذي يعيشه الزوج ” سليمان ” … الزوج غير القادر على الحوار مع زوجته والتعامل معها كزوج عليه واجبات كما له حقوق ، فنراه يلقي بنفسه إلى الخمرة عله ينسى أو تحل عقدة لسانه … أما ” عواطف ” الأرملة ( أم روايح ) فهي لا تأبه لهروب إبنتها ، وتتمنى الخلاص من إبنتيها الأخريتين ، ولا تتورع عن الإستجابة لمداعبات الشيخ ” حسني ” ، بل وتعده بلقاء في اليوم التالي … إضافة إلى ” فتحية ” ، زوجة الأسطى ” حسن ” العليل ، التي تخونه مع المعلم ” هرم ” .

شخصيات فيلم ( الكيت كات ) إجمالاً من المنسيين ، يعيشون على هامش المجتمع ، وبالرغم من البعد اللا أخلاقي في سلوك شخصياته ، ينظر ” داود عبد السيد ” إليهم برحمة وحنو وتفهم لحاجات النفس والجسد … فهناك المعلم ” هرم ” الذي بالرغم من إتجاره بالحشيش وبالرغم من خيانته لصديقه الأسطى ” حسن ” ، إلا أن هناك جوانب أخرى مضيئة في شخصيته … فهو مثلاً يرفض العمل كمرشد للشرطة ، ويدبر الألف جنيه التي طلبها منه الشيخ ” حسني ” … إنه إنسان محبط هو الآخر تتعقبه الشرطة ومطارد لا يملك لحظة أمن ، يختلس الحياة ويسعى لأمان مفتقد … أما شخصية المعلم ” عطية ” صاحب القهوة ، فهو مغلوب على أمره رغم أنه قد حاول إستجماع شجاعته للتصدي للمعلم ” صبحي ” الإنفتاحي ، إلا أنه يجد نفسه أعزل وعاجز عن مواجهته ومواجهة رجاله الذين أسالوا الدم من فخذه تحذيراً وإرهاباً .

هؤلاء هم شخصيات ( الكيت كات ) ، شخصيات واقعية صاغها ” داود عبد السيد ” بحذر وصدق أخاذ … راصداً في رهافة ودون مباشرة متغيرات الواقع وتأثيراتها على تلك الشخصيات وعلى تطور علاقاتها ، وذلك من خلال نماذج شديدة الإنسانية ، إنتقاها من أرض الواقع .

إن ( الكيت كات ) فيلم يتجاوز الحكاية التقليدية ، بل إنه لا يهتم بعناصر الحكاية بقدر ما يعرض لحالات ونماذج بشرية لا تعيش الفراغ ولكنها تجد نفسها في واقع أليم ضيق وخانق .

نصل الآن للحديث عن المكان في فيلم ( الكيت كات ) ، والذي يعد لوحده شخصية محركة وفاعلة ، وليس فقط مجرد خلفية جامدة للأحداث والشخصيات ، فالمكان يكتسب أهمية كبيرة في فيلم ” داود عبد السيد ” هذا …

إن « الكيت كات » كفيلم أو « مالك الحزين » كرواية يعدان بمثابة سيمفونية بصرية عن المكان وعن البشر داخل هذا المكان ، داخل تلك الحواري الضيقة ، والتي تحاصر الحركة وتطبق على الأنفاس ، وبالتالي يكتسب الديكور أهمية كبيرة أيضاً … ولم يكن إعتباطاً عندما أهدى ” داود عبد السيد ” فيلمه هذا لصديقه الفنان ” أنسي أبو سيف ” … فقد نجح فنان الديكور ” أنسي أبو سيف ” في إبداع هندسة المناظر وبناء ديكور يصل إلى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع ، وذلك من خلال وعي كامل وإدراك حقيقي لطبيعة المكان … لقد كانت لمسات ” أنسي أبو سيف ” واضحة بالذات في شقة الشيخ ” حسني ” وشقة ” فاطمة ” حيث كان الديكور يجسد بشكل ملحوظ ما يسمى بالوظيفة الدرامية للديكور والإكسسوار ، فالجدران تحاصر ساكنيها وتدفعهم إلى الهرب والفكاك منها … كذلك الحجرة الفقيرة المهجورة التي يلتقي فيها ” يوسف ” و ” فاطمة ” … فقد عبرت هذه الحجرة ، بقطع الأثاث المهشم الذي يعلوه التراب ، عبرت بشكل بليغ عن تلك الفوضى وذلك العجز الجنسي والوضع النفسي المحبط الذي يتملك ” يوسف ” ، خصوصاً عندما تصورهما الكاميرا من أعلى بين ركام الأثاث المهمل في لقطة ذكية ومعبرة لتبدو الحجرة الضيقة كما لو أنها واسعة عليهما وذلك من تأثير الحالة النفسية المتفائلة … ومن الطبيعي تحت ظل ديكور كهذا أن يكون مدير التصوير الفنان ” محسن أحمد ” قد إستفاد كثيراً من تلك المناظر وديكوراتها ، بل وساعدته ـ أيضاً ـ على تجسيد الحالات النفسية للشخصيات عن طريق توزيع الإضاءة وإستخدام زوايا للتصوير ، حيث ساهمت في نقل مشاعر وأحاسيس شخصياته إلى المتفرج ، وبالتالي ليس من الغريب أننا إستمتعنا بكادرات جمالية إبداعية معبرة وقوية ، إرتقت بمستوى الفيلم الفني والدرامي .

لقد حظي فيلم ( الكيت كات ) بإهتمام نقدي وجماهيري فاق كل تصور ، حيث إستمر عرضه الجماهيري أكثر من عشرين أسبوعاً … هذا بالإضافة إلى الإحتفاء والتقدير النقدي في الصحافة والمهرجانات … فقد إشترك الفيلم في عدة مهرجانات محلية ودولية ، ففي مهرجان الإسكندرية حصل على جوائز أفضل ممثل وسيناريو وتصوير وديكور … وفي مهرجان دمشق الدولي حصل على جائزة السيف الذهبي مناصفة مع فيلم كوبي وجائزة أفضل ممثل … أما مهرجان جمعية الفيلم فقد أهداه ثماني جوائز وهي : أفضل فيلم ، أفضل إخراج ، أفضل سيناريو ، أفضل ممثل ، أفضل مونتاج ، أفضل موسيقى ، أفضل ديكور ، أفضل ملصق إعلاني .

ولم يأتي هذا الإحتفاء ، وبهذا الشكل المذهل ، إلا لأن الفيلم يستحق كل هذا فعلاً … فقد تضافرت جميع العناصر والطاقات الفنية في الفيلم ( تمثيل ، تصوير ، مونتاج ، ديكور ، موسيقى ) تحت قيادة مايسترو ماهر وسينمائي فنان ، إستطاع حقاً ، من خلال ثلاثة أفلام فقط ، أن يقف في مقدمة الصفوف مع كبار المخرجين المصريين . إننا ، مع المخرج المبدع ” داود عبد السيد ” ، أمام حالة فنية خاصة في السينما المصرية .

 

 

رائعة التسعينياتـ فيلم الكيتـ كاتـ :-

————————————–

=====================

التحليل :

لعل هذا الفيلم الذي نتناوله اليوم من أصعب الأفلام التي يمكن الكتابة عنها أو الإشادة بها ، و ذلك لجماليته الأخاذة التي تجعل من أي كلمات إعجاب و تنويه ، مجرد نقط في بحر ما يزخر به من تميز و روعة ، و لكن لا بد أن نحاول ولو جاهدين الإلمام بجوانبه الرائع و أسسه المتميزة التي جعلت منه منارة مضيئة في عالم الدراما العربية حتى الآن .

 

القصة :-

ربما يكون السبب المباشر لخروج هذا العمل بكل تلك المشاعر و الأحاسيس و جمالية الطرح ، هو المخرج المخضرم صاحب الرؤية الفنية الغير إعتيادية : ” داوود عبد السيد ” ، حيث إعتمد في تقديمه لفيلم الكيت كات على منهج الواقع المرير والأفات الإجتماعية للطبقة الفقيرة من المجتمع المصري بأسلوب الكوميديا السوداء ، و كان هذا عبء على ” داوود عبد السيد ” المؤلف قبل المخرج ، حيث أن التركيبة النفسية لشخصيات الفيلم موجودة في شريحة كبيرة من المجتمع المصري ، الشيء الذي يتوجب معه إعطاء مصداقية أكبر لتلك الشخصيات و تبرير أفعالها و ردود أفعالها ، و هنا أثبت ” داوود عبد السيد ” موهبته الكتابية ، فيكفينا شخصية ” الشيخ حسني ” ، وهي الشخصية الرئيسية للفيلم و الحلقة المفرغة التي تدور حولها الأحداث ، لتعبر لنا عن ما تعانييه تلك الشريحة المهملة الفقيرة من عجز و أفات و مشاكل يومية لا ينفع معها المواجهة بل الهروب و البحث عن أعذار لذلك الهروب ، و لأبرهن عن وجهة نظري هذا تأملوا في الفيلم المشهد الرائع حين ذهب الشيخ ” حسني ” في الصباح الباكر لشراء الفول من عم ” مجاهد ” بائع الفول وصديق والد الشيخ ” حسني ” ، وهو رجل عجوز ، ويدور بينهما حوار متبادل سببه لوم عم ” مجاهد ” الشيخ ” حسني ” لبيعه منزل أبيه من أجل المخدرات ، والشيخ ” حسني ” يرد عليه باللوم لأنه لا يعرف ما يعانيه من مشاكل حياتية و ذات ضيق اليد ، وبعدها يذهب الشيخ ” حسني ” ، ولكنه يتذكر أن عم ” مجاهد ” لم يجبه وظل صامتاً فيناديه : عم ” مجاهد ” ، ولا يجيب الرجل ، فيقترب منه الشيخ ” حسني ” في هلع ويضع أذنه على صدره ويكتشف أنه قد مات ، و هنا يحمله على عربة و يذهب به إلى الحارة و يسير وحيداً في طريق طويل و يطلب من ينجده … إذا تأملنا هذا المشهد فأننا سنرى فيه من المعاني ما لا يمكن حصره ، فمن جهة يعبر ” داوود عبد السيد ” على أن كل جيل يلقى اللوم على الجيل الذي قبله في ما ألت إليه أحوال المجتمع المتدنية ، و يحاول جاهداً في نفس الوقت تبرأت ساحته من أي إتهامات يمكن أن يوجهها له الجيل الذي بعده ، بمعنى أن عم ” مجاهد ” – تأمل جيداً في معنى الإسم – يرمز لجيل أبائنا القدامى و ذكره لأنه ساعد والد الشيخ ” حسني ” على بناء البيت ، فمعناه أن الجيل الماضي هم من جلبوا لنا العزة و الكرامة بطرد المستعمر من البلاد و بنائها وتعميرها و في الأخير نكافأهم – الجيل الحالي – بهدم كل ما قاموا ببنائه ، أي أن المنزل صورة رمزية للبلد برمته … وهم غير راضون على ما أل إليه هذا المنزل من تدهور و تشقق بسببنا نحن أبناء هذا الجيل … و في الجهة الأخرى نجد أن الشيخ ” حسني ” يرد على هذا الإتهام بإتهام آخر يحمل في طياته العديد من الأنانية وحب النفس وهو لماذا قام والده بالتضحية في سبيل البلد في الوقت الذي كان هو بحاجة إليه ، فهو يعتقد أن البلد ليست جديرة بكل هذه التضحية الذي قدمها والده في سبيلها خصوصاً وأنه لا يوجد بها شيء إيجابي ، و مرة أخرى يتخذ الشيخ ” حسني ” من السلبية و الهروب وسيلة للدفاع عن نفسه و تبرير أفعاله و ذلك بقوله للشيخ ” مجاهد ” أن سبب بيع المنزل هو من أجل سداد تكاليف دراسة ” يوسف ” وعلاج والدته ” أمينه رزق ” ، ولكن عم مجاهد كان على علم بالحقيقة و يعلم ثمن المنزل الحقيقي ، وها هو ذا معنى آخر عميق يقدمه ” داوود عبد السيد ” وهو أن لعننا للظروف التي نعيشها ليس حل بقدر ما هو وسيلة جبانة للهروب من أخطائنا ، و أنه مهما حاولنا أن نظهر أنفسنا على أننا أبرياء و ضحايا ، ألا أننا نتحمل اللوم على ما أصبح يعرفه مجتمعنا من تفكك و مشاكل … أليس جميلاً أن ننظر للفيلم من هذه الناحية ؟؟؟

هنالك شئ آخر أحببت أن أتطرق له بخصوص : ” داوود عبد السيد ” المؤلف ، قبل أن أتحدث عن ” داوود عبد السيد ” المخرج وهو أنه إعتمد بنسبة كبيرة في هذا الفيلم على المشاهد الكوميدية الشيء الذي أساء للفيلم أكثر ما أن يخدمه ، فالفيلم كما ذكرت مصنف : كوميديا سوداء ، وحسبما قرأت فهذا النوع من الكوميديا هو الأصعب في التناول و الطرح لأنه ببساطة يجعل المشاهد يبكي و الضحك يعلو محياه ، وهنا مكمن الخطر فلا يجب بتاتاً الإستخفاف بعقل المشاهد عند طرح فيلم ينتهج هذا الأسلوب ، ولا يجب الإعتماد على كوميديا الموقف أو الإفيهات و النكات من أجل إنتزاع الضحكات منه في هذه النوعية من الأفلام ، بل يجب على المشاهد أن يضحك شفقة وحزناً على الشخصيات ، و أن يحس من قريب أو بعيد أن هذه الشخصيات تحاكيه و يجمعه معها عدة قواسم مشتركة ، و هنا للأسف فشل سيناريو : ” داوود عبد السيد ” في الحفاظ على الأحداث من الوقوع في هذه الثغرة ، و إمتلأ الفيلم بالعديد من المشاهد الكوميدية التي لم أكن أرى لها داع سوى إضحاك الجمهور ، عموماً لكل جواد كبوة وقد كانت هذه النقطة بالذات هي كبوة الكيت كات ، عدى ذلك فلقد أعجبني الحوار بين الأبطال .

 

ولعل من أفضل مشاهد الحوار في الفيلم ذلك الحوار الذي أجراه الشيخ ” حسني ” مع إبنه ” يوسف ” في نهاية الفيلم عندما رفض الشيخ ” حسني ” الإعتراف – رغم كل ما حصل تلك الليلة – بأنه شخص أعمى … وأيضاً جاء المشهد الذي تطرقت له قبل قليل و الذي جمع الشيخ ” حسني ” مع عم ” مجاهد ” كواحد من أفضل المشاهد الحوارية في الفيلم ، دون أن ننسى المشاهد الحوارية التي جمعت الشيخ ” حسني ” مع الشيخ ” عبيد ” ، و أخص بالذكر أن هذه المشاهد هي المشاهد الكوميدية الأفضل في الفيلم ، فلكم أن تتصوروا رجل أعمى يكذب على رجل أعمى آخر و يقنعه أنه يبصر بل ويأخذه للسينما و يبدأ في شرح أحداث الفيلم له !!! صدقوني لا يسعني أمام هذا سوى أن أحي كلاً من : ” داوود عبد السيد ” و ” محمود عبد العزيز ” على هذا الإبداع المنقطع النظير في هذا المشهد بالذات .

 

* الإخراج *

دائماً ما أقول أن المخرج إذا أراد أن يخرج فيلم متميزاً فيجب عليه أن يكون قد شارك في تأليفه أو ساعد في كتابة السيناريو له ، وهنا تنعكس هذه الصورة في أكثر صور الإبداع تميزاً من خلال فيلم الكيت كات ، فإن كان ” داوود عبد السيد ” المؤلف قد نجح في إستغلال قصة ” مالك الحزين ” ليخرج لنا سيناريو : فيلم الكيت كات الواقعي إلى أبعد الحدود والفلسفي المليء بالإسقاطات الرمزية وفي نفس الوقت تقديمه بأسلوب فانتازي خيالي جميل فإن : ” داوود عبد السيد ” المخرج قد فاق هذا النجاح في إخراجه لفيلم الكيت كات على تأليف بعدة مراحل … ولعل من يشاهد الفيلم لأول مرة فسوف يلاحظ أنه إتبع في نهجه الإخراجي أسلوب الواقعية و الرمزية ، بمعنى آخر إتباع أسلوب الواقع المرير بأقسى و أبشع صوره : سواء في الديكور أو الموسيقى أو الإضاءة ، لا يوجد مكان للغني في هذا العالم و لا للجمال … الفقر ، الجهل ، الإدمان ، الجنس ، هذا هو الواقع … هكذا هي حياتنا : this is your life ، و الرمزية من خلال لحظات الفرح القليلة الفنتازية التي تعيشها الشخصيات وخصوصاً الشيخ ” حسني ” والذي لا نرى كمشاهدين سبباً منطقي لسعادته وهو الكهل الضرير الفقير صاحب المشاكل التي لا تنتهي ، ومع ذلك نجده يبتسم و يغني ، وهنا جاء التحدي الأكبر لداوود عبد السيد في محاولته إخراج هذا الفيلم بتلك المعادلة الصعبة : الواقعية و الرمزية ، و لكن ” داوود عبد السيد ” كان كفؤ لهذه المهمة وقدم لنا الفيلم برؤية إخراجية رونق جمالها في بساطتها ، فجاء الديكور كلوحة زيتية باهتة لحي الكيت كات الذي يعبر عن طبقة الشعب الكادحة بأقسى صورها الشاذة من جهل و تخلف و كبت و أمراض نفسية و مشاعر كره و ضغينه ، و يال تلك القسوة التي تجلت في الفيلم من أوله لأخره و التي عبر عنها حي الكيت كات ، هل لاحظتم أن كل من حاول الخروج منه ما يلبث وأن يرجع إليه سواء بإرادته أو غصب عنه ؟! ، فيوسف فعل المستحيل من أجل الهروب من الكيت كات و لكن بائت كل محاولاته بالفشل و الشيخ ” حسني ” كان يخرج كل يوم من الكيت كات هائماً تائهاً في أرض مصر الرحبة و لكن ما يلبث أن يرجع إليه في المساء مستسلماً لقدره ، و أيضاً نرى أن ” نجاح الموجي ” لم يستطع السجن نفسه أن يقف حائلاً بينه و بين الكيت كات ، الكيت كات : ظروف الحياة الصعبة ، الكيت كات : الواقع المرير ، الكيت كات : حياتنا البائسة … يمكنك مواجهتها ، يمكنك أن تدير بوجهك عنها و يمكنك محاولة الهروب منها و لكن الغلبة لها دائماً ، اللهم إلا إذا صممت من أعماق قلبك على التمرد و ركوب الدراجة النارية و أنت الأعمى الكفيف و هربت من الكيت كات في منتصف الليل إلا نهر النيل الذي يدل على الأمل في غد أفضل … عندها فقط يمكنك كسر عين الكيت كات و فرد جناحيك بعيداً عن واقعك المر و التحليق إلى سماء أكثر إشراق والبحث عن أرض أكثر أماناً و إستقراراً و سعادة .

 

و إذا كان الديكور قد صور كل هذه المعاني السامية و العظيمة فإن الكاميرا قد حولت هذه المعاني و الأفكار إلى أحاسيس ملموسة عصفت بقلوب من شاهد هذا الفيلم و هو يعلم أن ما يشاهده واقع يعيشه هو وغيره ، وكمثال تأمل مشهد وفاة عم ” مجاهد ” ، عندما حمل الشيخ ” حسني ” جثة الرجل العجوز وحده و هو العاجز عن النظر و سار به في طريق طويل وحيداً يبحث عن النجدة و لا مجيب ، يا له من منظر مؤثر خصوصاً حركة الكاميرا التي جعلتنا نتحسس الأشياء مثل الشيخ ” حسني ” و ذلك من خلال حركتها البسيطة و تتبعها لخطوات الشيخ حسني و يديه من خلال رميه للقطع النقدية في الطبق المعدني مروراً بجسه لنبض عم ” مجاهد ” نهاية بسيره وحيداً في ذلك الدرب الطويل و الكاميرا فوقه تجسد طول الدرب و وحشته ، و كأننا نسير معها في أجواء جنازية مهيبة ، فعلاً لقد أحسست أني في عجز الشيخ ” حسني ” و أن ” داوود عبد السيد ” قد تعمد على البطء في إنجاز ذلك المشهد لنحس بكم العجز و الحزن الذي أحس بهما الشيخ ” حسني ” في تلك اللحظات المحزنة ، و لكن الحياة لحظات فرح و لحظات حزن ، وكذلك هو الكيت كات و كذلك هي كاميرا ” داوود عبد السيد ” ، و لعل الدليل على هذا الإختلاف مشهد ركوب الشيخ ” حسني ” للدراجة النارية ومدى الفوضى التي أحدثها في حي الكيت كات ، تلك الفوضى التي جسدتها الكاميرا بشكل رائع زاد من روعة المشهد و ذلك بأخذ لقطات من عدة أماكن في الحي ، وأيضاً أخذ لقطة عامة من الدراجة البخارية و تصوير هروب الناس للنجاة بحياتها من تهور الشيخ ” حسني ” … ناهيكم عن مشهد النهاية الرائع و الذي يستحق كتابة موضوع عنه يبين مدى العبقرية في خروجه بتلك الطريقة ، بدأ من هروب الشيخ حسني من حي الكيت كات و ركوبه للدراجة النارية و التصميم على قيادتها رغم محاولة أبنه ” يوسف ” ردعه عن ذلك مخافة أن يحصل له مثلما حصل في المرة الماضية و لكن هذه المرة ينجح الشيخ حسني في قيادة الدراجة بكل سهولة و يسر و كأنه مبصر و تساعدنا حركة الكاميرا الثابة على تقبل هذا المشهد ، و في الأخير نجده قد رمى نفسه في النيل ليظهر لنا معنى أخر خفي في الفيلم و هو أن الإيمان بالمستحيل يجعل من تحقيقه أمراً ممكنا … كل هذه المشاهد و غيرها الكثير تعبير صريح على رؤية ” داوود عبد السيد ” الإخراجية المتميزة لهذا الفيلم الذي كانت مشاهدته تتم من خلال عيني رجل أعمى … و كان لا بد لنا كمشاهدين أن نرى الفيلم من تلك الجهة المخلفة بالظلام العميق الذي لا يبيد ظلماته سوى القليل من الفرح بين الحين و الآخر .

 

عندما نتحدث عن فيلم بتناول حياة رجل أعمى و نظرته للمجتمع و من حوله من خلال هذا المنطلق ، فأننا لابد لنا أن نكون على دراية أن الموسيقى و الألحان ستكون جزأ مهما من هذا الفيلم و لها نصيب الأسد في خدمة النص السينمائي له ، وهنا نكتشف كنزاً آخر من كنوز هذه التحفة السينمائية ، ألا وهو موسيقاه التصويرية التي صاغها بكثير من المشاعر الجياشة و الحرفية الإبداعية الموسيقار الرائع بل الأكثر من رائع : ” راجح داوود ” و الذي تضم مسيرته الفنية العديد من الأعمال و الإنجازات الموسيقية المهمة منها : ( الصعاليك ، أرض الخوف ، مذكرات مراهقة ، خريف أدم ) وإن كنت أفضل شخصياً موسيقى فيلم : أرض الخوف ، ألا إن موسيقى فيلم ” الكيت كات ” كانت محركاً أساسياً للأحداث و بعداً ثالثاً أعطى للفيلم عدة معاني سامية يبقى البحث عنها مقترناً بأذن موسيقية مرهفة قادرة على ترجمة الألحان إلى كلمات و حكم .

 

الأداء :-

إن من يشاهد فيلم الكيت كات لن يبقى في ذكراه عن هذا الفيلم سوى أداء النجم ( محمود عبد العزيز ) الرائع لشخصية الشيخ ” حسني ” المركبة ، يا له من أداء … يا له من إحساس ، كيف أستطعت يا فنان أن تقنعنا بأنك أعمى و عيناك مفتوحتان عن أخرهما ، صدقوني عندما أقول لكم أن أداء الشيخ ” حسني ” قد أعجبني و أسرني أكثر من أداء أل باتشينو في فيلم : عطر المرأة ، كم تأثرت معه و هو يحاول حمل جثة عم ” مجاهد ” ، كم تمنيت أن أمد له يد العون في ذلك المشهد ، كم أعجبني في مشهد كذبه على الشيخ ” عبيد ” و أوهامه أياه بأنه رجل مبصر ، كم أسعدني و هو يسير بالدراجة البخارية في مشهد النهاية متحرراً بذلك من كل القيود التي كانت تشل حركته ، يال كل هذا الإبداع ، حقيقة لو لم يكن قدم ” محمود عبد العزيز ” غير هذا الدور لكان كفاه هذا الدور ليثبت للجميع على مدى قدرة موهبتة الأخاذة في فن الأداء العالي و التقمص المنقطع النظير ، عدا ذلك جاء أداء الشخصيات الأخرى عادياً إلى جيد ، ربما كان السبب هو أن أدوارهم كانت مساندة لدور الشخصية الرئيسة في الفيلم ( الشيخ حسني ) أو ربما كان السبب عدم توفيق المخرج في إنتقائهم حسب رأي بعض النقاد ، ماعدا : شريف منير و أمينة رزق و نجاح الموجي ، و الذي رغم كل محاولاتهم المضنية في التمكن من الأداء إلا أنه لم يستطع أحد منهم أن يتجرأ و يخطف الأنظار عن الموهبة الأخاذة و الهالة التي أحاطت بأداء ” محمود عبد العزيز ” المنقطع النظير ، و لا ينفع للتعبير عن روعة أدائه سوى مشاهدته .

 

* الشيخ حسني و نظرية البهجة *

إن البعد الدرامي و التركيبة النفسية للشيخ ” حسني ” جعلت منه مرأة تعكس نظرات كل واحد منا للحياة ، فرغم كل ما نعانيه – و أن كانت أبعاد كلمة معانات تختلف من شخص إلى آخر – في حياتنا اليومية من مشاكل و صعاب إلا أننا لا نيأس من الحياة و تجدنا بين الحين و الآخر نضحك و نغني ، هذه هي الفكرة التي أراد أن يوصلها لنا الشيخ ” حسني ” من خلال تصرفاته و شخصيته المرحة التي لا نرى لماذا تتحلى بكل تلك الثقة في النفس و السعادة الغير مبررة ، فرغم كل الصعاب التي يعانيها و التي إن كان يعاني منها أي واحد منا لكان إنهار بسرعة ، ألا أنه دائم الضحك و السعادة ، فلماذا يا ترى ؟! لأنه ببساطة تلك هي الوسيلة الوحيدة في الإستمرار في الحياة و إيجاد معنى مفهوم لعيشها ، فكفانا بحثاً عن الآلام و السير إلى الحزن بأنفسنا ، و لنبحث عن الفرح القليل المتبقي قبل أن ينطفأ نوره و يحل محله ظلمات حياتنا القاسية ، فلنعش ، فلنضحك ، فلنغني ، فمن يعلم : ربما لا يكون هناك غد .

لا تلعن الظلام بل أوقد شمعة ، وأركب دراجتك النارية و أطلق العنان لنفسك و لا تفكر في ما كان و ما سوف يكون ، فقط أطلق العنان و دع السفن ترسوا أينما يشاء لها العلي القدير أن ترسوا .

 

* خلاصة *

الكيت كات منارة مضيئة في عالم الدراما المصرية ، ملئ بالفرح و الحزن ، سحره في بساطته و حزنه ، ذكرني لحد ما بفيلم : الحياة جميلة ، حيث أنه يحمل في طياته أبعاد إنسانية و وجدانية رائعة و أراء و أفكاراً فلسفية و سياسية ملهمة ، جاء ليدحض مقولة ( الجمهور عايز كده ) تبريراً لتدني المستوى الفني للأعمال السينمائية ، حيث حقق الفيلم نجاحاً جماهيرياً لا يقل عن نجاحه الفني … وأن أردت أن تلخص فكرته في سطور فيمكنك القول : أن الحياة قصيرة جداً و صعبة جداً و السبيل الوحيد للتغلب عليها هو أن نضحك لها و نغني :

 

يالا بينا تعالوا نسيب اليوم بحاله

وكل واحد مننا يركب حصان خياله

دي إيه ؟ دي مصبغة علشان صبغ الجلود

ودي إيه ؟ دي مدبغة علشان دبغ الجلود

فيه جلد مالوهش لون وجلد بألف لون

وآهو كله بيتعمل جزمة وحزام وشنطة

سيبك م المدبغة وصباغة المصبغة

وبص بص شوف ، شوف الناس والظروف

يمكن تلقى الديابة لابسة فروة خروف

يمكن تلقى الغلابة في أول الصفوف

 

==============================

كما أحب أن أرفق مع الموضوع هدية بسيطة و هي أغنية ” يالا بينا تعالوا ” والتي يجب الوقوف عندها طويلاً وخصوصاً عندما يردد الشيخ ” حسني ” كلمة :

” زمــــــــــان ” …

 

« الكيت كات » و « مالك الحزين » : الزمن بين السينما والأدب

يعد فيلم الكيت كات للمخرج ” داود عبد السيد ” هو إحدى العلامات التاريخية الهامة في السينما المصرية … الفيلم مقتبس عن رواية « مالك الحزين » للكاتب الكبير ” إبراهيم أصلان ” ، وهو ما يحيلنا على الفور إلى العلاقة الوطيدة التي ربطت السينما بالأدب منذ البدايات الأولى لهذا الفن الحديث .

 

على الرغم من كثرة الكتابات النقدية والدراسات الأكاديمية التي تناولت هذين العملين ، فإنهما من الثراء بما يسمح بمساحات أوسع للتناول ، وجوانب وأبعاد أحدث للإستكشاف والبحث .

 

تعتبر رواية « مالك الحزين » نموذجاً للرواية الحداثية المتحررة من تقييدات السرد الكلاسيكي ، بينما فيلم « الكيت كات » المقتبس عنها أخذ منحنى أكثر كلاسيكية ذا سرد خطي وزمن متسلسل .

 

إستطاع ” داود عبد السيد ” أن يصنع من تعقيدات الزمن في « مالك الحزين » حبكة ذات أزمنة أوضح وشخصيات أقل وأكثر كلاسيكية ، بينما إحتضن ” إبراهيم أصلان ” التشابكات والتعقيدات بين الزمن الذي تقع فيه الأحداث وزمن سرده لها … كيف إستطاع كل منهما صب الزمن التاريخي في قالب الزمن السردي الذي إختاره ؟ هذا ما نحاول رصده …

 

السرد الحر ( غير الخطي ) :-

هو سرد غير مترابط ، مفكك يستخدم في الأدب والسينما ، يجسد الأحداث دون الإلتزام بترتيب حدوثها زمنياً ، يكون الزمن فيه متشظياً تماماً ، لا يلتزم بنمط معين لوقوع الأحداث ، وتتقاطع فيه الحبكات المختلفة للشخصيات المختلفة أو الأحلام والذكريات .

 

« مالك الحزين » رواية غير خطية السرد ، تقفز بها الأحداث والشخصيات والحبكات دون وجود حاجة لحبكة رئيسية بالشكل المتعارف عليه ، لكن هذا لا يعني أنها رواية متحررة تماماً من القصة … وهنا يمكن أن نلمس بوضوح أثر السياق التاريخي على النص الأصلى الذي كتبه ” إبراهيم أصلان ” فيما بين عامي 1972، و1982 .

 

ينتمي ” إبراهيم أصلان ” إلى جيل الستينيات الذي شهد حركة أدبية جديدة تضم عدداً من الروائيين مثل : بهاء طاهر ، وصنع الله إبراهيم ، ويحيى الطاهر عبد الله ، ومحمد البساطي ، وكلهم أبناء هذا الجيل الذي شهد مولد ثورة 1952 وتأثر بها وشهد المد الوطني المصاحب لها ، وهو أيضاً الجيل الذي شهد هزيمة 1967 وتجرع مرارتها .

 

وقد أمضى معظم أبناء هذا الجيل فترات متطاولة في صفوف القوات المسلحة ، وعانى بعضهم الأسر في معسكرات العدو ، وعندما عادوا للإندماج في الحياة العامة ، كان المجتمع قد تغير من حيث تركيبه الطبقي ، ومن حيث طبيعة العلاقات بين أفراده ، كما كان البناء القيمي قد مسه كثير من التغير ، وذلك بفعل الحروب الثلاثة ، وبفعل سياسة الإنفتاح الإقتصادي الذي لم يكن إنتاجياً .

 

كان الإنقلاب على الشكل التقليدي للحبكة الدرامية هو إحدى العلامات المميزة للإنتاج الأدبي لجيل الستينيات ، والذي يتبدى هنا بشكل واضح في رواية « مالك الحزين » إذ تدور أحداث الرواية في يوم واحد ، فالأحداث تبدأ مع « المساء الذي جاء مبكراً » ، وتنتهي مع إشراقة ضوء الفجر عندما كان « الهدوء يتراجع كما تتراجع الأحلام » … تتخلل هذا الزمن الأفقي رحلات عمودية في ماضي الشخصيات المتعددة يمتزج فيها تاريخ بناء حي الكيت كات بالتاريخ الشخصي للشخصيات .

 

تدور أحداث الرواية على مدار يوم أو أكثر قليلاً لكنها تعمل كبانوراما زمنية عريضة ممتدة ، يمكن حساب إمتدادها من الحملة الفرنسية على مصر وحتى مظاهرات 1977… يتضافر أسلوب السرد الزمني مع فكرة الزمن التاريخي ليخلق أحجية متوسعة في تاريخ الشخصيات وتاريخ المنطقة وتاريخ مصر نفسها ، فيصعب بأي شكل فصل الإختيار السردي عن الإختيار الزمني التاريخي ، فعن طريق الإنتقال بين الشخصيات نذهب إلى الأمام وإلى الخلف عدة مرات بشكل متداع وحر ، بل ويصعب تحديده أحياناً .

 

السرد الخطي :-

يعتبر السرد الخطي في الأدب والسينما هو حكي قصة ما حسب ترتيب حدوث الأحداث ، القصص التي تروى بإستخدام السرد الخطي عادة ما تملك بداية ووسطاً ونهاية بشكل واضح لا لبس فيه … في ذلك النوع من السرد يوجد ما يسمى الحبكة سواء كانت تقليدية أو أكثر تحرراً ، ويمكن أيضاً وجود حبكات أصغر لكن الكل يدور في نفس الإطار الزمني .

يقع فيلم « الكيت كات » في منطقة أكثر تقليدية وبساطة فيما يتعلق بالسرد ، فيمكن إعتبار الفيلم وعلى الرغم من تحرره الجزئي من الحبكة التقليدية ، ذا سرد خطي له بداية ووسط ونهاية .

 

لا تقع أحداث الفيلم بالضرورة على مدار يوم واحد مثل الرواية ، إذ يتخطى ” داود عبد السيد ” التركيز على الإطار الزمني وجعل الفيلم أقرب لدراسة شخصية ، فبدلاً من الشذرات التي تناثرت في « مالك الحزين » ، تم تكثيف الأزمنة والشخصيات في سردية أكثر قابلية للفهم وأكثر قدرة على إحتواء قدر أكبر من الجمهور لغياب التعقيد عنها .

 

يتعامل الفيلم مع حقبة السبعينيات ، كما في الرواية لكن يلقى المشاهد في عالم الفيلم والمكان والشخصيات دون إحالات زمنية واضحة ، ودون تنقلات في الأزمنة السردية بل يتم حكي كل شيء عن طريق الشخصيات الرئيسية التي تم إختيارها وتطويرها من بين شخصيات الرواية .

 

هنا أيضاً يمكن أن نقف عند أثر السياق التاريخي للجماعة السينمائية التي أطلق عليها الناقد ” سمير فريد ” إسم « الواقعية المصرية الجديدة » والتي يعتبر ” داود عبد السيد ” أحد أعلامها التي ضمت عدداً من المخرجين أمثال : عاطف الطيب ، ومحمد خان ، وخيري بشارة ، وغيرهم .

هناك الكثير من القواسم المشتركة التي تجمع بين هذا الجيل من المخرجين وجيل كتاب الستينيات ، فهذا الجيل وإن لم يشهد بزوغ ثورة يوليو ولكنه إرتبط بمشروعها وآمن به في فترة من الفترات ، وشهد الهزيمة المريرة في 1967، وشارك في صفوف الجيش المصري في معركة أكتوبر 1973، وعاد ليصنع سينما تعبر عن رؤيته الذاتية لمجتمع ما بعد الحرب ، متأثراً بالواقعية الإيطالية الجديدة التي ظهرت في منتصف الأربعينيات ، ليصبح الرجل العادي هو بطل أفلامهم ، وتتمحور الرؤية الفنية حول تجسيد روح الشارع المصري وطبقاته الدنيا .

 

وعليه فقد كان الهم الأكبر لدى ” داود عبد السيد ” هو نقل روح المكان ( منطقة الكيت كات ) من رواية « مالك الحزين » إلى فيلمه الذي عنوانه بإسم المكان نفسه « الكيت كات » ليؤكد محورية المكان في الحدث الدرامي ورسم الشخصيات ، بل إن المكان يتحول على مستوى من المستويات إلى شخصية أصيلة من شخصيات الفيلم .

 

نرى هنا أحد الإختلافات الجوهرية بين النص الأدبي ونظيره السينمائي على مستوى السرد ، ففي حين أن ” إبراهيم أصلان ” يميل إلى سيولة حالة السرد وتنوعها بحيث يصعب الوقوف على تصنيف واضح محدد لنوع السرد في الرواية ، نرى أن ” داود عبد السيد ” أكثر تحديداً في إعتماده على الصوت الداخلي لشخصيات من داخل عالم الفيلم .

 

وفي حين أن شخصية ” يوسف النجار ” تظهر مركزاً للسرد عند ” إبراهيم أصلان ” إذ يعطيها المساحة الأكبر من بين الشخصيات الكثيرة التي تضمها الرواية ، يتقاسم هذه المركزية في الفيلم شخصيتي الشيخ ” حسني ” و ” يوسف ” ، مع مساحة أكبر نسبياً للشيخ ” حسني ” ، بل إن ” داود عبد السيد ” يتلاعب بالسرد في أحد المشاهد ( مشهد العزاء ) ليظهر الشيخ ” حسني ” في ثوب السارد العليم ، فنرى أن عامل الفراشة يغفل عن إغلاق مكبر الصوت بعد إنتهاء المقرئ ، ويبدأ الشيخ ” حسني ” في سرد الكثير من التفاصيل والأسرار عن مختلف الشخصيات بالحارة ، ليأتي صوته من أعلى نقطة في المكان ، كما لو كان صوتاً إلهياً آتياً من السماء ، معرياً الجانب الخفي من حياة سكان الحارة .

 

الأمر نفسه يتكرر في سرد تاريخ الشخصيات أو المكان ، فنرى في أحد المشاهد الشيخ ” حسني ” يحكي للشيخ ” جنيد ” تاريخ منطقة الكيت كات ، وكيف أن جده الأكبر هو من بناه ، وشجرة الكافور الكبيرة بمدخل الحارة التي زرعها الجد شاهدة على ذلك .

 

هنا يظهر بوضوح كيف طوع ” داود عبد السيد ” السرد الحر في النص الأصلي ، والذي تنوع بين السرد المباشر من خلال الحوار ، والسرد غير المباشر من خلال الإنتقالات الزمنية عبر ذكريات الشخصيات أو عبر السارد العليم ، إلى شكل محدد ووحيد ، هو السرد الداخلي على لسان الشخصيات .

 

رسم الشخصيات :-

تداخل التقنيات السردية في الرواية جعل الزمن التاريخي والحقب المتعددة التي تتم الإشارة إليها يصعب الإمساك بها أو وضعها في إطار زمني دقيق ، لكن بالتدقيق والإمساك بكل خيط سردي سنجد أن في كل خط لشخصية ما يتم ذكر تاريخها في سياق تاريخ أكبر ، أو يذكر الزمن بشكل مباشر من خلال قراءة في جريدة أو حوار بين شخصيتين .

 

يمكن فصل تلك الأدلة لكي تصنع وحدة زمنية متسلسلة تحوي كل شخصيات الرواية بالتواريخ التي عاصروها أو التي حكوا عنها أو قرءوا عنها ، أو حتى أدلة مرئية بواسطة الشخصيات أو بصرية في طبيعتها مثل الصور الفوتوغرافية ، مثلاً في الرواية يحمل الشيخ ” حسني ” صورة فوتوغرافية تجمعه بالملك حيث يتم تكريمه .

 

والأمر نفسه ينطبق على الزمن في فيلم « الكيت كات » ، والذي يظهر في شذرات مماثلة ، فمثلاً ينقل ” داود عبد السيد ” مشهد الشيخ ” حسني ” بنفس التفاصيل مع إختلاف طفيف في السياق الزمني ، إذ يحمل الشيخ ” حسني ” صورة تجمعه بالرئيس المصري ” جمال عبد الناصر ” بدلاً من الملك .

 

في تلك الإحالة لا تتم الإشارة بشكل مباشر لأي إسم أو زمن بل يتم الإعتماد بشكل كامل لمرجعية القارئ لإلتقاط الفترة والشخصيات ، ففي إشارات مثل « الرئيس » ، و « السلام » ، و « الحرب » ﻻ يخفى على الوعي الجمعي أن الإشارة هنا هي للرئيس ” محمد أنور السادات ” الذي إقترن إسمه بهذه الرموز في سياقها التاريخي .

 

على مدار أحداث الرواية تتم الإشارة للشخصيات الأكبر سناً بالشيوخ أو المعلمين ، وتسرد حكايات الشباب بشكل واضح بأفعال مثل البحث عن عمل أو الدراسة ، لكن شخصية ” يوسف النجار ” تحمل قيمة خاصة ، ويتم التلاعب في الأساليب السردية فقط عند تناولها ، فتصبح أكثر قرباً للقارئ لأنه تتم الإشارة له كما تتم الإشارة للقارئ « تكتب » ، « تفعل » فكأن الكاتب يحدث القارئ ، و ” يوسف ” يحدث نفسه .

 

وبسبب خصوصية تلك الشخصية يفرد لها ما يشبه بالفصل في الرواية ، ولزاوية محددة منها ، وهي الحراك السياسي والتاريخي للنشاط الثوري ، فاليوم الذي تدور فيه الرواية يعتبر إرهاصة لمظاهرات يناير 1977 م ، كل ما يحدث هو مقدمة لإنفجار عنيف يتم التمهيد له ، وعندما يبدأ في الحدوث ، يتذكر ” يوسف النجار ” مظاهرات طلابية مشابهة عاصرها من خمسة أعوام ، وهي إحالة زمنية أخرى ، لا يتم الإفصاح عن العام المحدد الذي حدثت فيه المظاهرات ولا العدو الذي خرج هؤلاء الطلاب ضده ، يتم إلقاء شذرات هنا وهناك ، إشارة لمجلس قيادة الثورة ، وللمسرح القومي وتوقيع الممثلين والممثلات على بيانات ، يسيل الزمن ومعه السرد مرة أخرى ، مثل الذاكرة البشرية فيحدث نفسه عن ذكريات أخرى ويذكر أن عشرين عاماً قد مضت .

 

نرى هنا أن السياق الزمني مكون واضح في رسم الشخصيات سواء في النص الأدبي أو النص السينمائي ، يظهر ذلك بشكل جلي في شخصية ” يوسف النجار ” في الرواية والتي يكون السياق السياسي من أبرز العوامل المشكلة لها ، فإنغماس ” يوسف ” في النشاط السياسي وإرتباطه بحركة الطلاب بشكل أو بآخر يبرز جانباً من شخصيته يغيب عن الشخصية المقابلة في الفيلم .

 

ﻻ يوجد في الفيلم أي إشارة إلى إرتباط ” يوسف ” بالسياق السياسي ، فضلاً عن تكثيف هذا السياق بشكل عام على مستوى الفيلم على عكس الرواية ، فكما أسلفنا فإن الإشارات إلى السياق الزمني في الفيلم شحيحة للغاية ﻻ تظهر إلا بشكل ضمني من خلال الإشارة إلى سياسات الإنفتاح الإقتصادي وأثرها على المجتمع ممثلة في شخصية المعلم ” صبحي ” الفرارجي ، أو في إشارة عابرة لصورة الشيخ ” حسني ” مع الرئيس ” جمال عبد الناصر ” ، ويخلو تماماً من أي إشارة إلى حركة الطلبة سواء في بداية العقد في المظاهرات المطالبة بالحرب وإستعادة الأرض المحتلة ، أو في نهايته في حراك يناير 1977 ، وبالتبعية تغيب أي إشارة إلى إرتباط ” يوسف ” بهذا السياق من قريب أو بعيد .

 

وهنا يمكننا العودة إلى تأثير السياق التاريخي الذي ينتمي إليه كل من كاتب الرواية وصانع الفيلم ، ففي حين أن الجماعة الأدبية الجديدة التي مثلها جيل الستينيات كانت منغمسة في السياق السياسي بشكل مباشر ، فإن الجماعة السينمائية الممثلة في موجة الواقعية المصرية الجديدة في الثمانينيات كانت بمنأى عن هذا السياق بشكل أو بآخر ، على المستوى العملي والتنظيمي لا على المستوى الفكري ، ويرجع ذلك إلى إختلاف السياق السياسي نفسه الذي شهد جموداً في الثمانينيات على خلاف الفوران في السبعينيات ، بالإضافة إلى ميل جماعة السينما الجديدة إلى المدخل المجتمعي ﻻ السياسي في معالجة أفلامهم وموضوعاتها .

 

يظهر ذلك مثلاً في الإشارة إلى موجة الهجرة التي شهدتها مصر في السبعينيات والثمانينيات سواء الهجرة إلى الخليج العربي أو الغرب الأوروبي ، فنرى ذلك في حوار قصير بالفيلم بين ” يوسف ” وإثنين من أصدقائه بالحارة ، إذ يختلط عليهم حديث ” يوسف ” عن الهجرة ويؤلونها على أنها هجرة إلى الخليج بينما هو يتحدث عن الهجرة إلى أوروبا .

 

وهو ما يلقي بالضوء على التمايز بين الشخصيات ، فيوسف الشاب الجامعي المثقف ، يطمح في الهجرة إلى أوروبا ، بينما أبناء حارته الأقل تعليماً والذين يعملون بأعمال حرفية بالأساس يطمحون إلى الهجرة إلى دول الخليج البترولية التي ستمكنهم من جمع ثروة كافية للإرتقاء الطبقي ومن ثم العودة إلى مصر ، بينما ” يوسف ” يفكر في الهجرة من أجل الهجرة ، وليس من أجل العودة .

يظهر التكثيف في النص السينمائي أيضاً على مستوى عدد الشخصيات ، ففي حين أن الرواية تجمع عدداً كبيراً من الشخصيات ، فإن ” داود عبد السيد ” يختار منها عدداً بسيطاً بل إنه يذهب إلى الدمج بين عدد من الشخصيات في شخصية واحدة ، كما نرى في شخصية الشيخ ” حسني ” في الفيلم والتي تجمع ما بين الشخصية الأصلية في الرواية وشخصية أخرى هي الحاج ” عمران ” ، كما أنه يجمع بينها وبين شخصية ” يوسف ” ليكون إبناً للشيخ ” حسني ” في الفيلم ، في حين أنهما ﻻ تربطهما أي صلة دم في الرواية .

 

هنا نجد حالة تضمين أخرى للجانب السياسي في المجتمع المصري بالفيلم ، في إشارة إلى السلطة الأبوية وترميزاً للعلاقة بين الرئيس ” محمد أنور السادات ” الذي عمد إلى الإشارة لنفسه بأنه أبو العائلة المصرية ، والشباب أو الطلبة ، وهو ما يكثف أيضاً إختلاف التوجه الفكري لجيلين متباعدين ، وهي العلاقة نفسها التي نراها بين شخصية الشيخ ” حسني ” والعم ” مجاهد ” الذي يضعه ” داود عبد السيد ” في سياق مغاير تماماً عن السياق الذي يظهر به في الرواية ، وإن أبقى على كونه أحد الآباء المؤسسين للمكان ( الكيت كات ) بحكم إنتمائه لجيل أكبر وسياق زمني أقدم .

 

هكذا نجد كيف أن الزمن التاريخي قد ترك أثره على العملين الأدبي والسينمائي ، بإختلاف المعالجة في الحالتين وفقاً للتوجه الفكري لصانع كل منهما ، وبإختلاف السياق التاريخي نفسه للجماعة الأدبية والسينمائية كل على حدة .

كيف ترجم فيلم الكيت كات الرواية الأدبية في رؤية سينمائية ؟

يعد فيلم ” الكيت كات ” نموذجاً جيداً بل متميزاً في مجال كانت السينما المصرية تعانيه ألا وهو ترجمة العمل الأدبي إلى رواية سينمائية ، فقد كان تطويع البعد الروائي الأدبي لمصلحة المشهد السينمائي مرتبكاً دائماً .

لقد إستطاع ” داود عبد السيد ” ، أن يصنع من رواية ” مالك الحزين ” فيلماً متميزاً عن عمل أدبي مميز ، فقد جعل من الشيخ ” حسني ” وإبنه ” يوسف ” شخصيتين محوريتين تدور في فلكهما بقية الشخصيات وصاغ من تلك العلاقة التي تجمعهما رؤية لعالم ” الكيت كات ” بينما لا توجد شخصيات رئيسية أو حدث رئيسي في الرواية .

 

ويعد تحوير الأحداث من عناصر الإبداع الفني للمخرج في فيلم الكيت كات ، عن طريق عنصري الإضافة والإهمال فنجد أن عديد الأحداث التي كانت قائمة في الرواية أهملن وغيب دورها في الفيلم السينمائي نظراً لعدم توافقهما مع المخطط الإبداعي لداود عبد السيد ومن ركائز المواضيع التي عالجتها الرواية وأهملها الفيلم الحديث عن دور فضاء المقهى في توجيه مسار الأحداث .

 

قدم ” داود عبد السيد ” ، فيلم الكيت كات ، في لحظات أساسية منه بإعتباره إحتفالاً بالحياة وإحتفاءاً بمسراتها وتشبثها بها ، ومن أهم التحويرات التي مست الفيلم مقارنة مع الرواية هو أن المخرج جعل ” يوسف النجار ” إبناً للشيخ ” حسني ” وجعل من أم ” يوسف النجار ” في الرواية أماً للشيخ ” حسني ” يتقبل وساماً من الرئيس ” جمال عبد الناصر ” لا من الملك ” فاروق ” كما في الرواية ، كما أن تحويراً مهماً قد لحق صورة الشيخ ” حسني ” إذ قدمتها الرواية بهذا الشكل لحية طويلة … بقعها البياض … قامة نحيلة … رأس حليق ، أما الفيلم فقدم صورة شيخ وسيم وودود .

 

أضاف ” داود عبد السيد ” إلى فيلم الكيت كات ، بعض العناصر وحذف أخرى وذلك من أجل خدمة القصدية السينمائية التي توخاها ومن أجل تجاوز البناء الجاف الذي تقوم عليه الرواية وتعويضه برؤية فنية من إبداعه تعكس توجهاته وآرائه وأفكاره وفلسفته ورؤيته للعمل الفني .

فيلم الكيت كات
فيلم الكيت كات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.