الفنان التشكيلى عبد الغفار شديد يترشح لجائزة النيل للفنون
الفنان التشكيلى عبد الغفار شديد يترشح لجائزة النيل للفنون
تقرير /منى منصور السيد
هو الفنان المبدع الذي شقت سورياليته في ثمانيات القرن الماضي سرداباً للبحث عن نشأة الحياة وعن الخطيئة التي أنجبتنا، وهو في كل مراحل تلك الفترة حتى لو اختلفت مواضيع إبداعاته يتكئ على شفافية اللون فتكون اللوحة محض همس لاتكاد تسمعه العين لكن القلب يتحسس نبضه بمحبة لا انفصال عنها. ولم تكن مرحلة التسعينيات بمعزل في رقتها وسورياليتها الخاصة ورمزيتها العميقة عن تلك التي اتكأ عليها “شديد” في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أنها كانت مزيجاً من أعمال الطباعة والتصوير، لكن المُتلقي لايمكنه – في الحقيقة- أن ينشغل باختلاف التكنيك عن جماليات المشهد الشفيف الذي يعكس دون مواربة حساسية ميتافيزيقية تجلت بجذور هويتها المصرية في شخص وإبداعات “عبد الغفار شديد”. إن “آتيليه القاهرة” الذي نحتفل هذا العام بعيد مولده السبعين، والذي حفظ ولازال يحفظ تاريخ مصر الإبداعي والثقافي اتفق على رد الجميل لهذا الفنان الذي أخلص العطاء لمصر الحضارة والتاريخ والوطن؛ لإقامة هذا العُرس التشكيلي الذي يحفظ لإبداعاته ذاكرة الحضور البهي في الوقت الذي بادر “آتيليه القاهرة” بترشيح مُبدعنا المتفاني في حفظ ذاكرة التشكيل والتاريخ المصري “عبد الغفار شديد” لجائزة النيل للفنون، كي تشرف باسمه تلك الجائزة التي تأخرت كثيراً عن حضورها. ولا يسعنا إلا أن نشكر للفنان والناقد مجدي عثمان على جهده الاستثنائي لإنجاز هذا التكريم آملين في المزيد من نجاحات تمنح القوة الناعمة الكثير من فاعليات التحدي والصمود.
ولقد بدأت رحلة “شديد” مع الفن أو الرسم من قريته في كفر “فرسيس” من أعمال مدينة بنها، مع سنواته الأولى التي أبكرها بالكُتاب وحفظ القرآن الكريم، ثم الدراسة النظامية، وكان دائم الرسم على السبورة لوجه الملك فاروق. حتى إنتقل إلى مدرسة العباسية الثانوية، فحمله مُدرس التربية الفنية المسئولية عن حجرة تلك المادة، ويتذكر أن المدرسة علقت لوحته في مدخلها بعد كتابة أسمه عليها بماء الذهب.
لقد تعامل عبدالغفار شديد مع خامة الألوان الزيتية في تلك المرحلة، وله أعمال للطبيعة الصامتة، وتقليد لأعمال كبار الفنانين كمثل رينوار. وكانت أُمنية والديه أن يلتحق بكلية الطب، وحينما علموا برغبته دراسة الفنون قالوا: ” فنون جميلة هتاكل منين بعد كده، أدخل طب أحسن”، فإلتحق بكلية الطب؛ لكن مع أول محاضرة له، وكانت في التشريح، أحضر المدرس ذراع بشرية منزوعة الجلد لمشاهدة الطلبة تركيب العضلات، في مشهد لم يتحمله، فأخذ الشنطة وخرج، وذهب إلى والدته وأعلمها أنه سيدرس الطب لكن في أوروبا، فقالت: “لا يا أبني أدخل فنون جميلة لكن متسافرش”.
في الكلية كان أول دفعته الـسنوات الخمس، وإهتم به أساتذته خاصة حسين بيكار وعبدالعزيز درويش والبناني، وكان بقسم التصوير 5 من الأساتذة وعدد من المعيدين منهم، حامد ندا والجزار. وكان لأستاذه عزالدين حموده وضع خاص، حيث كان الوحيد الذي يذهب لبيته، ويعمل معه في لوحاته من البورتريه، حيث كان “حموده” يرسم الوجه والأيدي، و”شديد” يرسم الملابس، لما بها من أشكال دقيقة ودانتيل تحتاج إلى الصبر والدقة، ومنها بورتريه “فاتن حمامه”.
المزيد من المشاركات
وكانا بيكار وعبدالعزيز درويش دائماً ما يقولان له “يلا ياواد خلص عشان تتعين معيد”، ولما لم يتم تعيينه لسبب ما طلب أن يذهب إلى مرسم الأقصر كمنحة لتفوقه، وكان صلاح طاهر وقتها مدير الأوبرا وضمن لجنة الإختيار، وكان مدير المراسم عباس شهدي، وقبله كان الحسين فوزي، وقد عاصر الإثنين في الأقصر، وبعد التخرج من المرسم، إشترك في مسابقة لجمعية محبي الفنون الجميلة، وحصل على الجائزة الأولى وكانت رحلة لأوروبا، مدة 3 شهور مقسمة بين إيطاليا وإنجلترا، وإتصل به سكرتير الجمعية وأصر على حضوره اليوم التالي حيث حفل الإفتتاح وتوزيع الجوائز، ولم يُعلمه بالفوز، وعند دخوله إلى مقر الجميعة فوجئ بأن لوحاته معلقة في الصالة الأولى.
كانت الرحلة بالباخرة ذهاباً وإيهاباً، وتمر في طريقها على اليونان ومنها إلى إيطاليا، وهنا غير “شديد” وجهته تماماً، بعد أن شاهد المتاحف والمعابد اليونانية، وهاتف كمال السراج والذي أصبح عميداً لكلية الفنون الجميلة فيما بعد، وكانت لديه منحة في فينسيا، وسبق أن إقترض منه مالاً للسفر، وإتفقا أن يسترده إذا قابله في إيطاليا.
وذهب بعد ذلك للسفارات لمحاولة الدراسة في فلورنسا أو فينسيا، وكانوا عندما يرون أعماله، يرفضون إلتحاقه لعدم إحتياجه للتعلم، فغادر إلى باريس ثم ألمانيا، والنتيجة واحدة. فإتجه إلى تعلم اللغة في موينخ، وهناك أُعجبت به إحدى المدرسات وسألته عن سبب حضوره إلى ألمانيا، وكانت تعرف أستاذ كبير في كلية الفنون في جامعة موينخ، والذي شاهد أعماله، وطلب أن يؤدي الإمتحان أولاً كنظام الكلية، على أن يكتب على الدوسيه رغبته الدراسة في الأتيليه الخاص بذلك الأستاذ، وعندما درس معه أعطاه شهادة تُتيح له الحصول على أتيليه خاص، وحصل على لقب “ماستر إسكولر” ومنحه راتب شهري لأجرة موديل خاص به دون باقي الطلبة. وكان “ترانك” الأستاذ يحبه جداً لأنه يعشق مصر، وأول تحكيم لأعماله؛ أحضر “هيرمان كاسبر” وهو الفنان الذي كان يرافق هتلر في الحروب، والذي أثنى على أعمال “شديد”، فحصل على الأمتياز. وبعد دراسة الفنون سجل لدراسة المصريات في 3 كليات: الأثار المصرية، الجريكورومان، وتاريخ الفن الحديث، لمدة10 سنوات. وبعد إنهاء الدراسة طلب أستاذه عمل ماجستير، في المصريات، على أن يذهب إلى “طيبة” وسط المقابر، وبعد 3 سنوات طلب منه عمل دكتوراه. ثم طلب منه عميد الكلية في ميونخ أن يُدرس تلك المادة لديهم.
أما رحلة “شديد” في التدريس بمصر فقد جاءته بالمصادفة، حينما قدم إلى جامعة ميونخ وفد مصري من كلية الفنون الجميلة جامعة المنيا وكلية التربية الفنية، وكان الألمان يعدون لهم برنامج ثقافي، منه محاضرة له في كليته بالجامعة، وكانت ضمن الوفد د. ثناء علي، وكانت أستاذة في كلية التربية الفنية، فقالت “أولادنا أولى بك”، وبعد وفاة د. نعمت إسماعيل والتي كانت تُدرس تاريخ الفن بالكلية، طلب منه د. صبري منصور وكان عميد الكلية وقتها، تدريس تلك المادة، ولما وجد أنه الوحيد الذي يُدرس تاريخ الفن في الكلية، تعجب من عدم وجود قسم له، حيث أن كل جامعة في ألمانيا بها كلية تاريخ فن وحوالي 100 أستاذ ومبنى خاص، فأعد لائحة للقسم وقدمها إلى عميد الكلية، الذي عرضها على وزارة التعليم العالي، وصدر القرار بتأسيس القسم عام 1998 وكان القسم الوحيد لتاريخ الفن في الشرق الأوسط
ولقد عرفنا العديد من الفنانين المصريين الذين إغتربوا بأوروبا عشرات السنين، منهم من تركوا علامات هامة في الفن المصري المعاصر، مثل الفنان الراحل حامد عبد الله، والفنان المعاصر آدم حنين، وعرفنا أيضاً عشرات الفنانين المصريين الذين عاشوا بأوروبا فترات متصلة أو متقطعة، للدراسة أو الإكتشاف أو الإقامة، ثم عادوا إلى الوطن ليستأنفوا رحلة الإبداع، في شبابهم أو كهولتهم، ابتداء من جيل الرواد (مختار- ناجي- سعيد- كامل- عياد).. إلى جيل الوسط (مثل يونان والجزار ورافع…).. إلى الأجيال التالية حتى اليوم. ورأينا أن أغلبهم إتسم بالإزدواجية الثقافية والإبداعية (بين الثقافة الأوروبية والثقافة المصرية).. وكانت هذه الأزمة تذوب أحياناً (بالزواج السعيد) بين الثقافتين.. (وإن كانت لا تنتهي به)، وهو ما نلاحظه في تراث معظم جيل الرواد… وأحياناً أخرى كانت تصل إلى إستيعاب للفنان المصري وإذابته داخل المعدة الأوروبية، ومن ثم: إلى القطيعة التامة بينه وبين الثقافة المصرية وتراثها العريق.. وأحياناً ثالثة كانت الأزمة تصل بالفنان المصري إلى عكس هذا الإتجاه، فيرفض تماماً الثقافة الأوروبية، وينغمس في خزائن الحضارات المصرية، يحاكيها بشكل نمطي خال من الإبتكار أو الإضافة.. وهى توجيهات تمثل -على إختلافها- وجوها لأزمة واحدة، مازالت تمسك بخناق الفنان والمثقف المصري حتى اليوم.. أزمة البحث عن هوية مستقلة.
وفي إعتقادى أن تجربة “شديد” قدمت نموذجاً جديراً بالإهتمام لحل هذه الأزمة، ليس لكي يكون صالحاً لإتخاذه مثلاً يحتذى – ذلك أن الفن إبداع شخصي غير قابل للاحتذاء- ولكنه يشير إلى منهج في البحث الفني، لم يتعمد “شديد” الوصول إليه وتقنينه، وربما كان نجاحه فيه راجعاً إلى غياب هذا التعمد أو (الحذق المهني) اللذين يضران بالعملية الإبداعية أكثر من أي شيء آخر.
إن “شديد” – الذي لم ينقطع منذ ربع قرن عن دراسة علم المصريات وعن التواصل الروحي مع الفن الفرعوني أو الطبيعة المصرية في الريف والصحراء – إختزن في داخله فكرة (العبور الأبدي) بين عالمي الدنيا والآخرة، وهى ما تقوم عليه فلسفات الأديان كلها ابتداء من مصر القديمة حتى الإسلام، وتبعاً لذلك إختزن أيضاً مفهوم التسليم القدري من جانب الإنسان للقوى الغيبية، وآمن بالنظام الهرمي الراسخ للطبيعة والحياة والفكر، الذي يصل في ذروته إلى الوحدانية (في الفكر المصري القديم)، أو إلى التوحد مع الوجود (في الفكر الصوفي الإسلامي).. وفي سياق هذا التيار الفكري، الذي إمتزج بوجدان فناننا الآتي من قرية صغيرة بدلتا النيل، بكل موروثها الأسطوري والميتافيزيقي، لا يصبح للزمن أو للمتغيرات المادية أو الأحداث الجارية وزن يُذكر، بل تصبح الحياة