رُوّاد مقاهي دمشق: من شخصيّات سياسية وأدبية إلى عاطلين عن العمل
رُوّاد مقاهي دمشق: من شخصيّات سياسية وأدبية إلى عاطلين عن العمل
يجلس أقدم زبون لمقهى الهافانا كلَّ يوم في ركنه المحدد، يستعرض الثمانيني أبو غيفارا الحضور بنظرةٍ تائهة لا تميّز بين شخصٍ وآخر ممن يعجّ بهم المقهى..
نسأله عن الأمس واليوم فيقول: الطاولة التاسعة للماغوط، والسادسة لعادل أبو شنب.. هذا الركن للمفكِّر زكي الأرسوزي، وذاك لمظفر النوّاب.
بذلك تبدّلت وتغيّرت طبيعة المقاهي وزوارها، ليغلب على روّادها نماذج مختلفة، من بينهم العاطلين عن العمل، أو شيوخ العشائر القادمون من المحافظات، والباحثون عن مكان يقضون فيه وقتاً في دمشق، ريثما ينجزون أعمالهم.
مقهى الروضة
صاحب مقهى الروضة يقول إنّه كان يعرف 85% من زبائن المقهى وروّادها، وكان كلٌّ منهم يصافح الزوار كلّهم لأن الجميع يعرفون بعضهم، قبل أن يتوجّه كلٌّ إلى ركنه المخصّص، أما الآن فالوضع مختلف كثيراً.
يعتقد أبو العبد العامل منذ 47 عاماً في مقهى الروضة أنّ غالبية الزوار لا يستحقّون لقب الزبون بالمعنى التاريخي للكلمة، حتى أنّ مظهرهم الخارجي تبدَّل من لباس رسمي بطقم وكرافة، إلى من يأتي “بالشحاطة” والشورت أو بثياب الرياضة!
يعدّ مقهى الروضة من المعالم الأثرية في دمشق، فهو يعود لعام 1938 في شارع كان يسمى شارع السينما، قبل أن يمرَّ منه أوّل رئيس لسورية محمد علي العابد، ويتغيَّر اسمه ليصبح “شارع العابد
يمتاز هذا المقهى بموقعه الذي يتوسّط العاصمة، وبمقابلته للبرلمان السوري، مما جعله محطة سياسية أيضاً عبر التاريخ لشخصيات فاعلة منها محمود الأيوبي، ومصطفى طلاس، كما يؤكد صاحبه أبو علي.
انقلاب حقيقي
لم تبقَ مقاهي سوريا على حالها خلال سنوات الحرب كما كلّ الأشياء! يضيف أبو علي الذي أمضى 50 عاماً في إدارته لمقهى الروضة إنه في السنوات الأخيرة حدث ما يشبه الانقلاب الحقيقي في واقع عملهم، إذ إنّ غالبية الزبائن الذين أمضوا وقتاً طويلاً من عمرهم على كراسي المقهى اختفوا لأسباب عدّة، منها الرحيل سواء كمهاجرٍ أو متوفٍّ، ولم يبقَ سوى طفرات من الزوار ما زالت تنتمي لذاك الزمن.
يشبِّه أبو علي المقاهي الحديثة بالدكاكين التي تعمل لأجل الربح فقط. ويرى أن عملها يختلف كثيراً عن عمل ودور المقاهي التاريخية التي تتميّز بنكهة المقهى العربي، وبطبيعتها الخاصة، حيث كانت علاقات الأفراد ببعضهم علاقات صداقة ومعرفة، وكان الزبائن يسلِّمون على بعضهم، والغالبية تعرف بعضها، وإنّ هاتف الروضة الأرضي كان وسيلة التواصل بين الزبائن، وأسرهم الذين يمضون وقتاً طويلاً في المقهى، ولعدم توافر الجوّال، كما هو الحال الآن.
و في ذاك الزمن كان في دمشق ما بين 12- 15 مقهى تتميَّز بمساحاتها الكبيرة وسمعتها (كالرشيد، والصفا، ودمشق، والطاووس، والسلوى…الخ)، لكن لم يبق من هذه المقاهي سوى “الروضة” و”الكمال”، حيث بدأت المقاهي تتراجع منذ الثمانينيات.
ويربط الزبون الستّيني الدمشقي بين استمرار أبواب مقهى الروضة مشرعة، والإحساس بالطمأنينة على الوضع الأمني خلال سنوات الحرب، ويرى أنّ أضواء وأبواب المقهى المشرعة كانت تُشعرهم أنّ الوضع آمن، والأمور تحت السيطرة، علماً أنّ هذا الاستمرار لم يخلُ من المخاطر، فقد تعرضت المنطقة التي يقع فيها المقهى يوم إعلان الدستور عام 2014 في البرلمان إلى أكثر من 33 قذيفة، لكنهم لم يغادروا المكان كما أكد صاحب مقهى الروضة.
مقهى أبو كمال
لمقهى أبو كمال تاريخ عريق أيضاً، فهو يعود لعام 1930، يلقّبه مديره بمقهى الفقراء لأنه يقدم مشروباته بالسعر الأرخص في دمشق، فبينما يصل سعر فنجان القهوة في الهافانا إلى 900 ليرة، و1000 ليرة في الروضة، يقدم في مقهى الكمال بمبلغ 600 ليرة
يتحدث المدير عن ألقاب المقهى سابقاَ كتسميته باللاذقاني نسبة لزوّاره الكثر من اللاذقية، كما لُقِّب أيضاً بمقهى الختايرة بسبب غلبة أعداد كبار السن من زوّاره الذين يلعبون المنقلة والشدة والشطرنج، قبل الحرب، أما الآن فهو لمن يقصد دمشق من خارجها، ويحتاج إلى مكان يقضي فيه بعض الوقت، كما يؤكِّد المدير ويشير إلى طاولة يجلس عليها مجموعة من الرجال ويقول: هؤلاء يلازمون المقهى منذ الثالثة صباحاً، وحتى الثانية عشر ظهراً لليوم التالي ريثما ينطلق الباص المتجه إلى بلدتهم السلمية، حيث ينهون الأعمال التي جاؤوا من أجلها، وهؤلاء الزبائن يجدِّدون طلباتهم من القهوة والشاي بين الفينة والأخرى، إذ يطلبون الشاي بعدما يأكلون سندويشات الفلافل، ثم يتناوبون في طلب القهوة مرّةً، والشاي مرّةً أخرى.
كراسي شاغرة
يقول مدير المقهى الموظف براتب إنَّ أعداد الزبائن تناقصت أكثر من ثلاثة أرباع الأعداد المعتادة، بينما في السابق قبل الحرب كان الزبون ينتظر ريثما يفرغ كرسيٌّ يجلس عليه، أما الان معظم الكراسي والطاولات شاغرة، مع أنّ الوقت يعد وقت الذروة في الأحوال الطبيعية.
الأربعيني الذي يعمل في المقهى منذ 20 عاماً، يقول: إنّه كان يحصل يوميّاً على مبلغ 200 ليرة كانت تكفيه لقضاء كل حاجات أسرته، أما الآن فيحصل على اضعاف مضاعفة ، ولا تؤمِّن له أبسط الحاجات، وأنّ “البقشيش” الذي كان يحصل عليه من الزبائن يكاد ينعدم.
ظواهر جديدة
لم تعد المقاهي تقتصر على الذكور فقط كما في السابق، بل أصبحت النساء ترتاد المقاهي كزبائن وكعاملات أيضاً، ففي مقهى الكمال دخل العنصر النسائي للعمل منذ نحو 10 سنوات كما يؤكد مدير مقهى الكمال، ويضيف إنّهم فكّروا بتشغيل البنات كنوع من التغيير من جهة، وبسبب تراجع أعداد الشباب.
مقهى الهافانا
لا يمكن الحديث عن مقاهي دمشق دون إفراد حيّزٍ هام من الحديث لمقهى الهافانا الذي يسعى للحفاظ على خصوصيته بمقهى المثقفين، حيث تغيب ألعاب “كالشدّة أو المنقلة..الخ” عن الطاولات نزولاً عند رغبات الأكثرية التي تريد أن يظلّ للمقهى طابعه المتميّز عن غيره.
عام 1939 كان المقهى عبارة عن ملهى ليلي يسمى “القطة السوداء”، وفي عهد الوحدة السورية – المصرية تحوَّل إلى “ملهى السلوان”، وفي 1945 أصبح مقهى الهافانا بعد تزايد أعداد المهاجرين إلى أمريكا الجنوبية.
يضيف صاحب المقهى : إنّ تاريخ دمشق الحديث يبدأ من الهافانا، والبيان التأسيسي لحزب البعث أٌعلن منه، وإن زكي الأرسوزي كان في قائمة زبائن الفكر الذين حجزوا ركناً دائماً هناك، وإنّ 70-80 عاماً مرّت على المقهى تخلّلها الكثير من التنوع في الشخصيات، وفي القضايا التي كانت تُطرح للبحث، والنقاش على طاولات المقهى الرخامية.
و خلال سنوات الحرب تغيّرت طبيعة المقاهي تماماً، فالآن لا أجد جريدة في يد زبون، ونادراً ما أجد كتاباً، الغالبية تستعرض جوالاتها، وتتواصل عن طريق الإنترنت، ويمكن أن يقضي كل زبون ساعات لوحده.
وكما أثّرت الحرب كثيراً في نوعية الزوار، كذلك أثرت على عمل المقاهي بمجملها، لأنه في بداية الحرب التزمت غالبية الناس بيوتها الأمر الذي تسبَّبَ بأضرار كبيرة لأصحاب المقاهي، وجعل رواد مقهى مثل الهافانا ينخفضون إلى أكثر من النصف، بعدما كان يتم حجز الكراسي على الهاتف.
ويذكر أبو غيفارا أحد رواد الهافانا، وهو الشاعر الأرمني آرون الذي كان مشهوراً بقراءة الحظ بخطوط اليد والفنجان، والذي كان يصنع طقساً أيضاً في المقهى للراغبين بالحصول على بعض الترفيه عن النفس، لكنه يشير إلى اختلاف الزبائن بين الأمس واليوم، فهو الآن ينزوي على طاولته شبه غريب بين الزوار الذين لا يعرف أحداً منهم، ولا يعرفونه أيضاً، يقول إن أكثر الزبائن حالياً هم من المناطق الشرقية من رؤساء وشيوخ العشائر، وهنالك زوار لمن لديه معاملات، أو ينتظر موعد تحرك القطار أو الباصات إلى محافظاتهم، ورغم كل الاختلاف الذي يعيشه أبو غيفارا، وأحياناً الغربة بين الأمس واليوم، لكنه يؤكّد أنه لا يستطيع الانقطاع عن هذا المقهى لأنه بالنسبة له متنفَّسه الوحيد، وجزءٌ من يوميات عمره، واليوم الذي لا يأتي فيه للقهوة يتواصل معه العاملون في المقهى ليطمئنوا عليه.
يعود أبو غيفارا في الزمن، ويسترجع أصدقاءه الذين رحلوا أو هاجروا، وينتقل للحديث عن أحدث كتاب ترجمه، في شغف حقيقي ليجد من يحدِّثه كما سابقاً عن أهمّ أعماله.
و يقول الثمانيني أبو غيفارا إنه يزور الهافانا منذ كان في 25 من عمره، ويرى أنّ ما كان يجري في هذا المقهى يشبه نشاط المجلس النيابي، لأنهم كانوا يمثلون غالبيّة سياسيي البلد، وفي مقابل هذا النشاط ضمن الهافانا كان في الطرف المقابل من الشارع نشاط مماثل في مقهى البرازيل للأدباء والشعراء والفنانين الذين لم يقتصروا على فناني سوريا، كنصر الدين البحرة، ونزار شرابي، بل من الدول العربية كمصر ومن بينهم محمود المليجي، وفريد شوقي، ومن العراق مظفر النوّاب، وأحمد صالح النجفي، وكانت الحياة السياسية والثقافية والأدبية والفكرية تكتمل بين هذين المقهيين.
مقاهي دخيلة
شاعت المقاهي الحديثة كأحد أساليب الاستثمار في دمشق، رغم اعتراض أصحاب المقاهي القديمة على تسمية النشاط الجديد بالمقهى، بل وصفها بعضهم بالدكاكين، ويرون أنها عبارة عن بضعة كراسي، وطاولات على الشارع العام، في حين البعض الآخر استثمر في البيوت التاريخية لدمشق القديمة، وحوَّلها إلى مقاهٍ حديثة تختلف بترتيبها وزبائنها، وأسعارها عن مقاهي دمشق التاريخية، والحقيقة أن أسماء أغلب تلك المقاهي تعزز الفكرة: (صبح ومسا، وبيت ستي، وأخرى بيت جدي، ووراق الزمن، وباب الحارة…الخ)، وكما أنها لا تشبه المقاهي القديمة سوى في الاسم كذلك حال زبائنها الذين يغلب عليهم صفة الشباب، والمراهقين أحياناً، وهم غالباً من ميسوري الحال
التاريخ كلّه
أما صاحب مقهى النوفرة، يؤكد إنه تمّ تشييد المقهى منذ ثلاثة قرون، وإنّه ما زال يحافظ على تقليد الحكواتي الذي يقصّ على الحاضرين سيرة عنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي، والظاهر بيبرس.
ويقول أحد الأبناء الورثة إن هذا الحكواتي هو السادس الذي مرّ على المقهى، وإن الحكواتي الخامس توفي خلال سنوات الحرب بعدما استمر بقص الحكايا لمدة 20 عاماً. ويضيف الشاب لم بتغيَّرَ في عمل المقهى سوى خسارتهم للسياح الأجانب والعرب، حيث كان المقهى محطة لا بد منها لكل الوفود السياحية القادمة إلى دمشق، بعدما تناقص زوار الداخل بسبب منع الأراكيل.
قرارات قاتلة
يرى أغلب أصحاب المقاهي إنّ الحرب لم تكن السبب الوحيد في تراجع عملهم، بل هنالك أكثر من قرار جاء بمثابة الحرب الحقيقية ضدّهم، ويرون إنّ قرار منع التدخين في الأماكن العامة كان سبباً في تراجع أعداد زبائنهم قبل أن تضطر بعض المقاهي لتكييف بنائها مع الشروط المطلوبة، ثم جاءت كورونا، وأجهزت على ما تبقّى، فقد ألزمت المقاهي بالإغلاق لمدة 3 أشهر، ثم جاء القرار الأكثر تأثيراً على عملهم، وهو منع استخدام الأراكيل، لأن شرب الأركيلة هو الهدف الأساسي لأكثر الزبائن.
تاريخياً
يعدّ الكثير من المتابعين لتاريخ دمشق إنّ للمقاهي دور تاريخي وفاعل في الحياة السورية، وفي مجالات متعددة كالأنشطة السياسية والفكرية والأدبية.
فهنالك الكثير من القصص اللافتة التي تميز أسماء المقاهي الموجودة في دمشق، كقصة قهوة التائبين التي كانت قبل السبعينيات في منطقة الربوة، وما هو متداول أنّ سبب التسمية يعود إلى لقطة سينمائية من فيلم لدريد لحام، ونهاد قلعي عن قصة “إمراة تسكن وحدها”، حيث قاما بمراقبة اللصوص، والاتصال بالشرطة على العنوان الذي يسميه دريد لحام قهوة التائبين، و هنالك قصة أخرى يرويها أصحاب الفكاهة لأصل التسمية، وهي: إنّ من رواد المقهى جماعة تركوا المسكرات، واستعاضوا عنها بالمجيء الى هذا المقهى.
أما سبب تسمية قهوة “خبيني” الواقعة عند ساحة الحجاز بدمشق بهذا الاسم فتعود إلى العهد العثماني وزمن السفر برلك، عندما كان الجيش العثماني يأخذ الرجال إلى الحرب، وكانت شرطة الجندرمة برئاسة عريف يسمى أبو لبادة تتفقّد المارّة بحثاً عن الفرارية، وهو لفظٌ كان يُطلق على من يتخلف عن الجندية، ويطلبون منهم الوثيقة، وكان الناس يصرخون عندما يرونهم عباية عباية، أما الشباب الفراري فكانوا يلجؤون إلى الجالسين، وأصحاب القهوة قائلين خبيني خبيني.